محمد الإحصائي: 2-5 أطفال يموتون يومياً لعدم توفر جهاز الإنعاش الرئوي
آية منصور /
مثل الكثير، استقبل (محمد الإحصائي) مولوده الجديد بحزن شديد بعدما علم انه ولد من دون رئة متكاملة، الوضع كان يتطلب تدخلاً من جهاز الإنعاش الرئوي، الذي لم يكن متوفراً في العديد من مستشفيات العاصمة بغداد،حجج كثيرة وتبريرات أكثر يسمعها الإحصائي وهو يتحسر على عمر مولوده الذي بدأ يدخل مرحلة الخطر، “لا وجود للجهاز، الأجهزة مشغولة بمرضى آخرين، ابحث في مشفى آخر”، ثلاثة ايام كانت كفيلة بوفاة مولوده الصغير.
كان هذا الطفل ملاكاً مرسلاً ليوقظ أباه ويجعله حافزاً في عالم التطوع الإنساني، لم يقف محمد الإحصائي مكتوف اليدين، فتطوع للعمل لشراء أجهزة الإنعاش الرئوي التي قتلت مولوده لينقذ المئات من الأرواح. “الشبكة” التقت محمد داخل أروقتها حيث دار معه هذا الحوار:
بعد وفاة صغيري الحسن، لم اسمح لنفسي بالتحدث مع أحد مطلقاً، حتى مع نفسي، زوجتي أرادت الانتحار لأكثر من مرة، كنا نعيش في دوامة كبيرة وأجواء كئيبة، لكن كان لزاماً علي العودة الى عملي.
النازحة التي ساعدته على الكلام!
أثناء دوامي في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية تقدمت نحوي طفلة جميلة من النازحات تدعى (شهد)، عينها كانت بيضاء، وهي اول من تحدثت معه بعد فترة الصمت تلك، لم أدرك حينها من هو والد شهد، الذي كان يبحث عن راتب للرعاية من أجل اعانة عائلته النازحة، صغيرته قد تصاب بالعمى، وراتبه لا يكفيه لشراء قوت يومه، وراتب الرعاية الذي يبلغ خمسين ألفاً لن يضيف شيئاً لمبلغ العملية الذي تحتاجه شهد، والذي يقدر بعشرة آلاف دولار، أو اكثر، سحبت شهد نحوي، وقمت بتصويرها من دون علم والدها، وقمت بنشر قصتها على مواقع التواصل الاجتماعي من أجل توفير مبلغ العملية لها.
للحظة فكرت بصغيري الذي سرقت أجهزة الانعاش الرئوي روحه مني، تخيلت والد شهد وهو يرى ان صغيرته ستكون ضريرة ولا يستطيع مساعدتها، لم يصدقني في البدء الكثيرون – لخوفهم من احتيال بعض المنظمات- فاضطررت لأخذ الصغيرة معي والتجول في مختلف المناطق، لأيام وساعات كثيرة، استطعت جمع المبلغ الكلي في أسبوعين، سافرت شهد وأجرت العملية، ونجحت.
لم يكن محمد الإحصائي يعلم ان شهد التي ساعدته على التحدث بعد صمته لأسبوعين، كانت هي الانطلاقة الكبيرة له في حياة التطوع والإنسانية، والشعور بالآخر، ليبدأ دوره الجديد في المجتمع وبمساعدة عدد من الاصدقاء ومواقع التواصل الاجتماعي، جمع محمد الكثير من التبرعات لإجراء العمليات، إقامة المشاريع، وتوفير فرص عمل للمحتاجين.
يستدرك محمد: كان هدفي الأساس هو توفير أجهزة الانعاش الرئوي للمستشفيات، لأن هناك من طفلين الى خمسة اطفال يموتون كل يوم في المحافظات لعدم توفر هذا الجهاز، اخبرت جميع من أعرف بنيّة شراء الأجهزة لكن المصادفة الغريبة ان الكثير من المتبرعين انسحبوا “لأسباب اجهلها” معللين رفضهم بكون هذه الأجهزة مسؤولية الدولة!
الهدف الأساس
استطاع محمد، ومن خلال تبرعات مختلف شرائح المجتمع، مساعدة وإنقاذ أكثر من 120 طفلاً لإجراء عمليات القلب المفتوح خارج العراق، وذلك بتقسيم الأموال التي يحصل عليها من المتبرعين لإجراء العمليات للصغار، ليتمكن وبمساعدة احدى المهندسات التي أخبرته بإمكانية توفير الأجهزة ثم دفع الأموال لاحقاً، الأمر الذي شجعه لشراء أربعة أجهزة إنعاش رئوي من المانيا وبسعر 30 مليون دينار عراقي، وإحضارها الى العراق، لكن اغلب المستشفيات رفضت تسلمها بسبب الروتين وعدم الشعور بالمسؤولية تجاه المرضى.
ويذكر الاحصائي بحسرة: بعد اجراء عملية لأحد الأطفال في الهند ونجاحه عدنا الى العراق، وكان بحاجة لإنعاش رئوي ايضا، ولكن يبدو ان التاريخ كان يريد ان يعيد نفسه فتوفى كصغيري!.
بعد وفاة الطفل مباشرة، أصبح لزاماً على محمد – كما يخبرنا- وضع تلك الأجهزة في المستشفيات، وبعد عدة مناشدات وتساؤلات، أعرب المعاون في مستشفى الإسكان، الطبيب ظافر، عن سعادته باستقبال الأجهزة، فقدم الإحصائي جهازين لمستشفى الإسكان. وبعدها بشهرين تمكن من وضع الجهازين الآخرين داخل مستشفى اليرموك، وحتى اليوم يجمع محمد التبرعات لشراء أجهزة أخرى ستصل العراق ومستشفياته في الأشهر المقبلة.
الملاك المبعوث
وغير العمليات الكثيرة، والأجهزة، عمل محمد على توفير مبالغ للبدء بمشاريع صغيرة تعود بالنفع على أصحابها، كشراء عربة صغيرة لأحد المحتاجين، وإجراء عملية تحديد جنس وسحايا لإحدى المريضات، اضافة لعمليات ولادية لبعض العوائل المتعففة.
بعد كل هذا، يشعر الإحصائي بالامتنان لصغيره “الحسن” الذي يعد موته سبباً رئيساً للتفكير بكل تلك العوائل.
ويختم بدموع: لقد غسلوا صغيري ودفنوه أمامي، جعلني هذا المشهد أفكر بجميع الآباء والأمهات الموجوعين على صغارهم، ابني كان سبباً في إنقاذ جميع هؤلاء الصغار، وأنا ممتن له مرة ثانية.