دارُ التراث الشعبي وسبلُ الحفاظ عليها

1٬129

علي إبراهـيم الدليمي  /

تعدّ فنون الحِرف والفنون الشعبية جزءاً لا يتجزأ وإبداعاً متمماً ومتوازناً للموروث الثقافي والفني للخصائص والرؤى الحضارية لجميع شعوب العالم، فهي مرآة صادقة ناصعة الوضوح تعكس التراكم الزماني والمكاني الحضاري الأصيل لنشاط وتفاعل المجتمعات المتنوعة عبر الحقب التأريخية المديدة.
وعلى الرغم من أنها تتمثل بأعمال مادية ملموسة ومنظورة بخامات مختلفة من صميم البيئة نفسها، إلا أنها في الواقع انعكاس تربوي لمجموعة من القيَم والمفاهيم الروحية الاجتماعية والجمالية الإنسانية الخالدة الباقية مع التأريخ.
وتؤدي الفنون الفلكلورية الشعبية دوراً سياسياً واجتماعياً وثقافياً متواصلاً، وذوقاً جمالياً لعموم أبناء المجتمع، فضلاً عن كونها تراثاً أصيلاً، وهوية متميزة لذيذة الأحاسيس للبلد عن باقي الفنون الشعبية للبلدان الأخرى، والمحافظة على هذه الفنون الفلكلورية ينبع من الأصالة الوطنية، والوفاء الجميل، بل الواجب المقدس بعينه في أعناق أبناء المجتمع.
وعن خصوصية الفنون الشعبية في العراق، ندلف قليلاً إلى داخل أروقة (دار التراث الشعبي) في بغداد، وهي الدار العراقية الوحيدة التي تؤوي حِرفيات وفنون تراث العراق من شماله إلى جنوبه. وللأمانة الإنسانية والتأريخية نقول إن فكرة إنشاء هذه الدار تعود للفنان التشكيلي الرائد عطا صبري (1913-1987) عند زيارته بعض بلدان أوروبا، فعندما كان يدرس الفن في (الغرب) سنة 1939، وأثناء زيارته المتحف الألماني (روجي موزيم) في مدينة ميونخ، لفت انتباهه وجود آلة (الجومة العراقية) وكان يجلس خلفها شخص عراقي يرتدي على رأسه (جراويته) البغدادية المعروفة من محلة باب الشيخ، وكان ينسج الشعري (الحرير الطبيعي)، وقد وضعت بجانبه لوحة تعريفية صغيرة كتبت باللغة العربية. بقيت هذه المشاهدة تلاحقه عند عودته إلى الوطن، فإذا كانت الشعوب الأخرى التي نهبت آثارنا القديمة وخزنتها في متاحفها، قد اعتزت أيضاً بصناعتنا الشعبية في الصورة المتقدمة، فالأجدى برواد الفن داخل البلد أن يحافظوا عليه. لذلك حمل الفنان عطا صبري هذه الفكرة، وجاهد في سبيلها طويلاً، في دروب قاحلة من النضال، حتى تحققت وقطف ثمارها الطيبة.
وهكذا تأسست دار التراث الشعبي الحالية سنة 1970 باسم (مركز التدريب الحِرفي) بملاك ضئيل، وكان مرتبطاً حينذاك بوزارة التربية. وفي سنة 1972 تمت تسميته بمعهد الفنون والصناعات الشعبية بعد أن قدمت دراسة لاستقطاب العناصر الكفوءة، التي توارثت عملها الفني والحِرفي بعيداً عن الدراسة في المعاهد والكليات الأكاديمية، حيث يطلق على الواحد منهم اسم (الأسطة) أي الأستاذ المتمرس عملياً لنقل خبرتهم إلى الجيل الجديد الذي سيتدرب على أيديهم في هذه الدار.
في سنة 1976، ارتبطت الدار بوزارة الثقافة والإعلام باسم (مركز الحِرف والصناعات الشعبية) وألحقت به: مديرية معهد الفنون والصناعات الشعبية، ومديرية التراث الشعبي، والمركز الفلكلوري، ومديرية القسم الفني للمعادن. وكانت مهمته تدريب الهواة والراغبين، الذين يتقدمون للتدريب على مختلف فنون الحِرف والصناعات الشعبية، من دون التقيد بتحديد العمر أو الجنس أو التحصيل الدراسي. وكانت هذه الدورات مسائية، ومدتها سنة دراسية واحدة، قبل أن يكون معهد الحِرف والفنون الشعبية (حالياً) بدراسة منتظمة لمدة خمس سنوات، لكن بشرط أن يكون المتقدم حاصلاً على الدراسة المتوسطة.
في سنة 1981، سميت (دار التراث الشعبي) بموجب قانون وزارة الثقافة والإعلام رقم 94، حيث ورد ذلك ضمن أسماء الدوائر المرتبطة بالوزارة نفسها، وأصبحت الدار تشتمل على تقسيمات إدارية، أهمها أقسام: “الخزف والفخار، وحياكة السجاد والنسيج اليدوي، والنحت والنقش على الخشب، والخياطة والتفصيل والأزياء الشعبية، والطرق على المعادن وأعمال المينا، والرسم والتصميم، والخط العربي والزخرفة والريازة الإسلامية.”
فضلاً عن مهام الدار العديدة الأخرى التي حققتها على مدى سنواتها المتواصلة، منها القيام بالمسوحات الميدانية على مساحة العراق، لتحديد الحِرف الشعبية النادرة وشبه المندثرة والعمل على إحيائها بقصد التوثيق والإفادة منها للأغراض الثقافية والإعلامية والسياحية. كذلك إعداد وتنظيم دورات تدريبية عملية وعلمية مستمرة طويلة الأمد وقصيرة بغض النظر عن العمر والجنس والتحصيل الدراسي.
أما مهمات الدار على المستوى الخارجي، فقد أقيمت عشرات المعارض الشاملة، لجميع فنون الحِرف والفنون الشعبية عن طريق الدعوات الموجهة، مع تنفيذ الاتفاقيات الثقافية والفنية والإعلامية الدولية.
وقد حصدت الدار جوائز متقدمة مهمة من خلال مشاركاتها الخارجية منها: الجائزة الثانية لمعرض كراكون للدمى في بولونيا سنة 1986، والجائزة التقديرية في معرض الحِرف الآسيوية للفخار في الهند سنة 1978، والجائزة الأولى في معرض “أورشاك” الدولي في بلغاريا سنة 1988، والثالثة سنة 1984، والجائزة التقديرية في معرض مكتب التربية العربي للحِرف والأعمال اليدوية في البحرين سنة 1986.
وعلى المستوى المحلي: فقد حرصت الدار على إقامة المهرجان السنوي للتراث الشعبي العراقي، منذ سنة 1984، بمشاركة عدد كبير من الحِرفيين العراقيين المتخصصين الآخرين من جميع أنحاء العراق، والذي يتمتع بصدى طيب واسع على مستوى القاعدة الجماهيرية الشعبية والثقافية.
إلا أنه، للأسف الشديد، أخذت هذه المؤسسة العريقة بالانحسار في عديد موظفيها (الأسطوات) وأصبحت غير مبالية برسالتها الفلكلورية الصحيحة بسبب غياب الدعم المادي من قبل الجهات المعنية، ما يدعوننا اليوم الى أن نقف بجانبها ونحيي تراثنا الأصيل ونستفيد من خبرة (الأسطوات) القديمة قبل رحيلهم.