الغجرُ.. مواطنون غرباءُ في بلادهم

1٬220

آية منصور /

-نعم، نحن غجر، ونحب الحياة والغناء، ولم نؤذ أحداً، فلم كل هذا الكره نحونا؟
هكذا تبدأ سوسن عبد الرحمن (38 عاماً)، من سكنة منطقة الفضيلية، تساؤلاتها حول التمييز العنصري والطبقي الذي تعاني منه شريحتها، لكن السعادة غمرت سوسن بعد طول معاناة عند نجاح حملة ضغط دفعت الحكومة الى شمول الغجر بقانون إصدار البطاقة الوطنية الموحدة، قرار وإن كان متأخراً، لكنه قد يسترد بعضاً من الحقوق التي استلبت منهم وألحقت بهم اذى بالغاً.
لسنوات طوال عانى الغجر كثيراً في العراق، حتى بعد أن امتلكوا الجنسية العراقية، بنص خاص، اي، باستثناء من قانون الأحوال الشخصية، وهذا الاستثناء سبب لهم الكثير من المعاناة، بسبب تمييزهم عن غيرهم من العراقيين، اذ حرموا من التعيين في الوظائف الحكومية بسببه، كما أنهم تعرضوا للتهميش والإقصاء من قبل المجتمع الذي يرفض تشغيلهم في أبسط عمل فقط لأنهم غجر.
الغجر بشر
الصحافية منار عبد الأمير، التي عملت على تعديل قانون الغجر وأسهمت بشكل كبير في شمولهم بالبطاقة الوطنية الموحدة عبر حملتها “الغجر بشر”، تسأل: فمن منا قد اختار أهله أو عشيرته ليتعرض لكل هذا التمييز العنصري؟ وتضيف:
– ظل حرمان الغجر وعدم شمولهم بقانون البطاقة الوطنية طي النسيان، لكن قصة لطفل من الغجر مُنع من إكمال دراسته بسبب الجنسية، أعاد قضية حرمان الغجر من حق إنساني ووطني الى الواجهة ليتحول الى قضية رأي عام تطالب بحقهم وبشمولهم بالبطاقة الوطنية.
طالبت عبد الأمير بحقوق الغجر منذ عام 2016 وسبقتها عدة محاولات من بعض الأشخاص والمنظمات ولكنها لم تنجح، إلا في بعض الأمور، مثل خدمة الكهرباء، والحصول على الجنسية لمن لا يمتلك الجنسية من الغجر، فكانت أول من عمل على حقوقهم بصورة عامة.
تقول عبد الأمير: إن المحور الأول الذي عملنا عليه هو فتح مدرسة لأطفال الغجر في الديوانية، واستطعنا بالفعل تحقيق هذا المنجز بمشاركة بعض المدافعين والناشطين. فقد حرم الأطفال في قرية الزهور/ الديوانية من التعليم أكثر من 14 عاماً بعد أن هدم مسلحون مجهولون قريتهم بعد عام 2003.
أين هويتي؟
يذكر أن أعداد عوائل الغجر في العراق لا تتجاوز الثلاثة آلاف عائلة يتجنب أغلبهم الاندماج، لخوفهم من قسوة المجتمع ونبذهم، إلا أنهم يبدون واضحين في محافظات محددة، مثل الديوانية وديالى ونينوى وكركوك، ولا يملك كثير منهم أي عمل، كما أن أطفالهم ونساءهم يمارسون التسول وبعض الرجال يعملون كسائقي أجرة، والأغلب الأعم منهم مشردون بلا عمل، ولا مأوى، ولا حتى تعليم.
تؤكد منار أن كثيرين في المجتمع، وحتى الحكومة العراقية المركزية والمحلية، يخجلون من تناول مظلوميتهم بسبب وصمة العار التي تلاحقهم دون أي ذنب، الأمر الذي جعلهم يعارضون حملتها في بادئ الأمر.
-لم تتوقف الحملة هنا بعد أن حققت منجزات التدريس لهم، ثم أطلقت بعدها حملة “أين هويتي؟” للمطالبة بحق الغجر في البطاقة الوطنية فقد تعرضوا للكثير من المشاكل بسبب حجب البطاقة عنهم.
البطاقة الموحدة “المنقذة”
وبمساعدة ثلاثة من أبرز رجال الدين وبعض المسؤولين الحكوميين الذين دعموا حملة منار وفريقها خلف الأضواء تحقق حلم الغجر بالحصول على البطاقة الوطنية ليتخلصوا من كابوس الاستثناء الذي كان مكتوباً على شكل عبارة في أوراقهم الثبوتية.
تؤكد عبد الأمير أن البطاقة الوطنية ستساعدهم على تجاوز الحواجز المجتمعية التي عانوا منها طويلاً ناهيك عن عنف المجتمع المما رس ضدهم، وتوضح: نحتاج لفترة للإعداد والعمل على تنفيذ برامج الإدماج المجتمعي ومساعدتهم لتخطي الحواجز النفسية التي أثرت فيهم طوال سنين عديدة، فضلاً عن برامج التعليم ومحو الأمية، والتمكين الاقتصادي.
للمرة الأولى في العراق
عضو المفوضية العليا لحقوق الإنسان الدكتورة فاتن الحلفي، أكدت أن هذا الإجراء يعد الأول من نوعه بعد أن كانت توضع إشارة للمواطنين الغجر والتي تعتبر نوعاً من أنواع التمييز، تقول الحلفي:
– مفوضية حقوق الإنسان كانت وما زالت من المؤسسات السبَّاقة الداعية إلى حصول أبناء الشعب العراقي على حقوقهم المشروعة كافة ومنها حق امتلاك البطاقة الموحدة لأبناء الغجر
تكمل الحلفي: أن مكاتب المفوضية العليا لحقوق الإنسان في محافظات الديوانية وديالى وبابل أجرت في أكثر من مناسبة سلسلة مفاتحات طالبت فيها وزارة الداخلية بالبحث عن السبل الممكنة لتخفيف الأثر الناتج من كلمة “مستثنى” كون الفئات أعلاه تمتلك الحق القانوني بامتلاك وثائق رسمية غير مؤشر عليها اي انتهاك أو تمييز أو اشارة تدل على عرق أو لون لتعرض أغلبهم الى مضايقات بسبب ذلك، وتضيف:
– كانوا محرومين من حق الحصول على البطاقات الموحدة بالرغم من امتلاكهم باقي الوثائق الرسمية، غير أن وزارة الداخلية وافقت على رفع الاستثناء عنهم مؤخراً، دون قيد أو شرط.
هل سنحصل على حقوقنا البسيطة؟
عبد الكريم مسعود، أحد المواطنين الغجر، الذي يعمل حمالاً، يؤكد شعوره الجديد بعراقيته، ذلك الشعور الذي افتقده -رغماً عنه- سنوات طوال.
– لم نمتلك حتى اليوم البطاقة الموحدة، سنمتلكها في المستقبل، وسنبدأ حياة جديدة بدون منغصات، ولعلنا سنتمكن من إيجاد فرص عمل أخرى، ولكن الأهم من هذا كله، احترام المجتمع وتقبلهم لنا.
وبعد 2003 استبدلت كلمة (غجري) في شهادة الجنسية العراقية التي تحدد هويتهم كأقلية عرقية بمفردة (استثناء).
ومنذ تأسيس الدولة العراقية في عشرينات القرن الماضي منع الغجر من الالتحاق بالجيش العراقي أو الشرطة باعتبار ذلك يناقض الشرف العسكري، كما يعاني الغجر في العراق من أمور عدة، متعلقة بوجودهم، اذ لا يحق للأزواج الجدد تغيير معلومات هوية الأحوال المدنية بعد الزواج، فتبقى المعلومات القديمة في هوية الأحوال كما هي أي “أعزب” ما يسبب العديد من الأضرار المتمثلة بعدم القدرة على استخراج الجنسية لأطفالهم.
تحدثنا وسناء سالم (26 عاماَ) مؤكدة ذلك بغضب وحزن شديدين بقولها:
– لم نتمكن انا وزوجي من استخراج هوية الأحوال المدنية، فاعتمدنا زواج السيد، وبعد إنجابي طفلاً لم يسمحوا لنا بإصدار هوية أحوال له، هو اليوم يبلغ من العمر 5 سنوات، وأريد له الانخراط في الدراسة مع أقرانه، ألا يحق لنا فعل هذا؟ اذ لم أتمكن أنا أو إخوتي من دخول المدرسة والتعلم، هل ستسري اللعنة على أبنائنا أيضاً؟
الوصمة الاجتماعية
الباحث الاجتماعي د. علاء حميد يرى: أن التعامل مع قضية الغجر، هو في حد ذاته اختبار في تقبل التنوع والاختلاف، حتى لو تعاملنا معها من جنبة قانونية لكي نعالج هذا التقبل، ولكن تبقى المشكلة في تخطي ما تسميه العلوم الاجتماعية “الوصمة الاجتماعية” التي تضع شريحة او فئة ضمن تصور ثابت لا يتغير بسهولة.
ومن ملاحظة طريقة انتشارهم الاجتماعي، فهم يسكنون على حافات المدن، نستنتج أنهم يتجنبون الوقوع ضمن دائرة الرصد والتصنيف، ولهذا واجهوا أكثر من تحدٍ وضعهم في أزمة الحفاظ على وجودهم.
يضيف حميد أن مبادرة إعطائهم سمة قانونية “بطاقة وطنية” لا يغير من واقع حالهم، اذ هم غالباً ما يقعون تحت طائلة ضغط توجهات تعمل على إزاحتهم، وتكريس نبذهم، ولذلك نسأل: أليس لهم الحق بالعيش والتساوي مع غيرهم في فرص الحياة والعمل؟
ربما قد يكون منحهم بطاقة وطنية، كبقية المواطنين، مدخلاً مناسباً لمراجعة تغيير أسلوب التعامل معهم في ضوء ما يوصمون به، لأنهم شريحة سكانية منتشرة في مدن العراق من الجنوب الى الوسط فضلاً عن الشمال، بمعنى آخر لا يمكن تخطي وجودهم، وهنا تبرز وظيفة الدولة ودورها في منح مواطنيها مؤهلات ومهارات تساعدهم على تجاوز عوائق الوصم الاجتماعي، والقدرة على دخول سوق العمل.