ليلى مراد: أن الفقرَ الذي دفعني للغناء هو سرُّ الحزنِ في صوتي!
ارشيف واعداد عامر بدر حسون /
المطربة الفنانة “ليلى مراد” ذات الصوت الدافئ المعبّر الحنون، والنجمة الرقيقة رقّة النسيم في ليالي الصيف، لها سرّ، سرّ لم تبح به لأحد، ولا تعرفه إلا قلّة من الناس تنحصر في والدها المرحوم الفنان زكي مراد، والموسيقار محمد عبد الوهاب، والمخرج محمد كريم.. فما هو هذا السر الذي ظل دفين قلبها عشرات السنين؟ استمع اليه معنا:
كنت صغيرة السن عندما تنبه من حولي في البيت والمدرسة الى جمال صوتي، وإجادتي ترديد الألحان التي كانت سائدة في تلك الأيام..
وكنت أستمع الى أبي وهو يعالج أحد الألحان بين لفيف من أصدقائه ومحبيه، فأستطيع أن أردد اللحن بمجرد سماعه.
وكنت من أشد المعجبات بالأستاذ محمد عبد الوهاب، وكان صوته يدخل كل بيت فيه “بنات”، ويستقر فيه “كاللزقة الإنجليزي”.. وكان بيتنا من بين هذه البيوت التي دخلها صوت عبد الوهاب والتقطت أذناي ألحانه كلها، ولكن لحناً واحداً استقر فيهما ولم يخرج أبداً.. انه لحن “ياما بنيت قصر الأماني”. كنت أحس براحة، ولذة، وحزن شديد أيضاً وأنا أردد هذا اللحن.. ثم يتسرب صوتي من حجرتي الى بقية حجرات البيت، وربما وصل الى الطريق العام.. وحين زارنا الأستاذ محمد عبد الوهاب أغلق والدي حجرة الاستقبال وقال له بلا مقدمات:
– إن الظروف يا محمد قد اضطرتني أخيراً الى دفع ابنتي الصغيرة الى احتراف الغناء.. وقد كان بودّي أن تظل بعيدة عن هذا الجو، فقد أنشأتها نشأة تربوية خاصة، ولكن ماذا أفعل؟
وقال له عبد الوهاب:
– أهي صاحبة صوت جميل!
قال والدي:
– ستسمعه الآن، وتحكم بنفسك!
وكنت أنصت الى هذا الحوار، وقد وضعت أذني على ثقب الباب.. فما إن أحسست بوقع أقدام أبي، حتى ابتعدت عن الباب وجريت الى حجرتي. ثم تدور الأيام وفكرة احتراف الغناء بعيدة عن خيالي بعد السماء عن الأرض، إذ أن طبيعة و دراستي بمدارس “الراهبات” والاحتشام المفروض فرضاً على تصرفاتي، لا يتفقان قط واحتراف الطرب والغناء، والوقوف على خشبة المسرح أمام مئات المتفرجين، ولكن الظروف التي أحاطت بالأسرة ذات يوم، قربت هذا الخيال كثيراً الى دنيا الحقيقة. وهذا هو سري.. اتصل والدي، رحمه الله، بالموسيقار محمد عبد الوهاب ودعاه لزيارته المنزل، وجاء محمد عبد الوهاب وجاءني والدي وقال:
– يا ليلى.. أتحبين رؤية محمد عبد الوهاب؟
قلت: – أيوه..
قال.. – اذن تعالي معي فهو عندي في حجرة الاستقبال
ورأيت محمد عبد الوهاب لأول مرة وسألني:
– أتحبين أدواري؟
– جداً يا أستاذ..
– أتحفظين بعضها؟
– نعم
– إذن اسمعيني واحداً منها
وغنيت أمامه: “ياما بنيت قصر الأماني”
وإعجب بصوتي، وأدائي، وهنأ أبي قائلاً:
– سأدعو محمد كريم لسماعها، وسأكتب معها عقداً للظهور أمامي في فيلمي.
وحين سمع الناس صوتي قالوا “إنها عاشقة.. إن صوتها فيه عشق وحب ووله.”
وسرّي الثاني هو ما اكشفه لك اليوم..
– إنني لم أكن عاشقة.. ولم يعرف قلبي في تلك السن المبكرة معنى الحب والعشق، ولكنها رنّة الألم والحزن والأسى هي التي ظنها الناس رنّة عشق وهيام!
ورنّة الألم والحزن في صوتي لها أصل.. فقد كانت نفسي تتمزق حين أتصور أنني دفعت لاحتراف الغناء بسبب الظروف القاسية، وأنني انتزعت من جو ثقافي كان يؤهلني لأن أكون شيئاً آخر غير “المطربة” ليلى مراد..
وكم من أناس حسبوا أنني سررت لأنني غنيت أمام عبد الوهاب، ولكن ها أنذا قد كشفت لكم عن سرّي، “وملحق سرّي”..
ولي سرّ ثالث صغير..
فقد فكر عبد الوهاب في تقييدي بعقد لمدة خمس سنوات بسعر زهيد، باعتباري مطربة وممثلة ناشئة، على أن أمثل وأغني فيما يخرجه من أفلام طوال هذه المدة.. ولكن المخرج محمد كريم عارض هذه الفكرة إذ كان من رأيه تقديم وجه جديد أمام عبد الوهاب في كل فيلم من أفلامه.. وكنت قد تقاضيت عن فيلمي الأول 350 جنيهاً، ولو لم يعارض محمد كريم فكرة عبد الوهاب لكنت قد فقدت خمسة وعشرين ألفاً من الجنيهات، هي أجري عن الأفلام الخمسة الأولى التي أعقبت فيلمي مع محمد عبد الوهاب.