في إحدى المرات كان الطينُ ألذَّ من التين
عبدالزهرة زكي/
دخلتُ في إحدى الليالي على أحد الأمراء الذين تعاقبوا على كتيبتنا في حرب إيران، وكان الرجلُ تمتزج في سلوكه الغلظةُ بشيء من الإحساس بالعظمة وبآخر من الجنون مع فظاظة في التعامل مع الجميع يخالطها شعورٌ بالشك والارتياب من كثيرين.
أدّيتُ التحيةَ العسكرية، فأشار بيده إلى مقعدٍ طالباً مني أن أجلس من دون أن يتفوه بكلمة، وحين حاولت الاعتذار عاد فكرر طلبه بما بدا أنه أمْرٌ أكثر مما هو تعبيرٌ عن تقدير. حقيقةً كان الرجل لحظتها يريد المجاملة والتقدير، لكن لا يستطيع إخفاء حاجة فيه لاستعراض السلطة؛ هذه هي طريقته في التعامل الذي دأب عليه مع الآخرين ممن هم دونه موقعاً ورتبةً من دون أن يقصد بها سوءاً، إنها بعض ما تبرره أخلاق الجيش والجندية التي عرفناها في سنوات خدمتنا. تحسّبت من رد فعلٍ منفعلٍ منه فجلست.
كان منشغلاً ببريد أمامه، بينما كنتُ أنا مستمتعاً ببرودة المكان المجهز بمبردة هواء وهي ما أفتقد إليها في ملجأي الحار في ذلك الصيف وطيلة ثمانية أصياف قضيتها هناك، في عشرات الملاجئ التي تنقلت في ما بينها، إنها حال جميع الجنود، وربما كان يشترك معهم بهذه المعاناة صغار الضباط أيضاً.
بعد لحظات توقف فجأة عن مطالعة البريد، وظلّ يجول بنظره باحثاً أمامه عن شيء ما حتى استقر عند صحن كانت فيه حوالي ستُّ حباتٍ من تين أصفر فابتسم بنشوة واضحة، لقد وجده على طاولةٍ قريبة مني فنظر إليّ وقد اتسعت ابتسامته، وبكلمات أقل من عدد حبات التين طلب مني أن آكل.
كان التين لم يبلغ الأسواق بعد في مثل تلك الأيام؛ عرفتُ بغد ذلك من الآمرِ نفسه أن جندياً من حرسِه الشخصيّ هو من جاء إليه نهارَ اليوم بكمية من تينِ بستانٍ لوالده في قرية من قرى واسط، وهو (الجندي) الذي قطفها من شجراتها، وهو أيضاً مَن غسل الحبات التي أمامي في الصحن.. كان نضجُ الحبات سابقاً لأوانه، كان نضجاً ريّاناً فعلاً ويثير الشهية، أو هكذا بدا لي ساعتها خصوصاً أن التين لم يحن بعد أوان قطافه فلم يصل إلى الأسواق، لقد ظل الآمِرُ يعيد على مسامعي تكرار هذا الامتياز، بفخرٍ وخيلاء، حتى بتّ أشك ما إذا كان قد خُيّلَ له أنه هو من زرع التين وهو من أثمره ومَن أنضجه وهو الذي قطفه.
تجاوزتُ طلبَ الآمر مني أن آكلَ، فلم آكل.
حقاً أشتهيت التين، ولكن فضّلتُ أن لا أكله حيث أنا أمام ضابطٍ صاحب مزاج متقلّب ويريد أن يستعرض امتيازاً يتنعم به أمام واحد من الجنود أكثر مما كان يريد إكرامَ ضيف. تصورت أنه هو أيضاً سينسى طلبه مني ما دام مركِّزاً ومنشغلاً بالبريد.. بعد لحظات تنبه إلى أني ما زلت لم آكل بعد، فأعاد طلبه من دون أن يرفع عينيه عما كان يقرأ ولم ينظر إليَّ، فأكلت.
أكلتُ على مهلٍ حبّتين، ثم توقفتُ محاولاً التشاغل عن الأكل بمتابعة التلفزيون الذي كان يقدّم نشرةَ أخبار مملّة، غير أنه التفت إليّ فكرّر الطلب فيما نادى على جنديٍّ حرسٍ ببابه، وكان هو ذاته جندي التين، فأمره بخفض صوت التلفزيون، فأكلت حبتين أخريين قبل أن أتوقف ثانيةً وقد تظاهرت هذه المرة بالاكتفاء معبِّراً عن ذلك بكلمات شكر للآمر وباستحسان أطريت به التين.
لم يكن توقفي برغبة مني، لا مبرر بعد الحاحه لترك الثمرتين الأخريين، لكني كنت قد صُدمتُ فجأةً؛ فلقد لاحظت أن الحبتين المتبقيتين في الصحن لم يُنظَّفا جيداً، فما زال عليهما طينٌ أكثر مما يمكن أن يُحتمل، فتوقفت. قلت مع نفسي أربع حبات تكفي لطمأنة شهيتي ولإشباع تباهي الآمر بالتين، سوى هذا فإن الدعوة كانت كرماً غير متوقع من الرجل.
لم يرد على شكري، وبدا كما لو أنه لم يسمع كلماتي برغم أنه سمعها فعلاً، فحين فرغ من البريد، أخذ يتحدّث معي عن التين فاكهته المفضلة التي لا ينبغي للبيت أن يخلو منها طيلة موسمها، ثم عاد ليتحدث عن امتياز هذه الكمية التي وصلته كونها من البستان مباشرةً وقبل أن تأكل الناس يومها هذه الثمرة التي جاء ذكرها في القرآن، وما كان لكتاب الله أن يذكرها قبل الزيتون لولا فوائدها العظيمة التي أخذ بتعدادها لي.
عدت فامتدحت ما أكلت من التين، وكان يستحق الثناء فعلاً. لكنه انتبه إلى أني توقفت عن الأكل فيما ما زالت أمامي حبتان، فعاد وأكد على أن آكل كلَّ ما في الصحن:
ـ « كلْ يا أخي.. هذا مقسوم لك، كلّ اللي بالصحن من حصتك ونصيبك، أنا أكلت قبلك أكثر من كيلو، وباقي كمية أخرى في ثلاجة الفلّين».
كلامه أوامر لا تُرد، لكن ماذا عن محنتي مع الطين، وكانت كل قطعة منه تعادل نصف الحبة التي علق بها؟ لقد وجدتني بوضع فعلاً كان معقداً؛ لا أستطيع تنظيف الحبتين من طينهما فأثير انتباهه فيعاقب الجنديَّ حتماً، ولا أستطيع الامتناع عن الأكل مع طلبه الذي بدا ودوداً فيه ولو بطريقة توحي بالتفاخر أكثر من الكرم.
لا حل؛ الجنديّ المسكين يتوقع حتماً إجازةً لأيامٍ يعود بها إلى بيته وبستان أبيه إكراماً لما جاء به، هل أتسبب بحجبِ الإجازة عنه وإبدالها بعقوبة له قد يكتفي معها الآمر، في أهون حال، بإهانة وكلام بذيء متوقَّع!
لقد صرت بين خيارين لا ثالث لهما؛ أن أنظف الحبتين المطينتين، أو أن أغمض عينيَّ فالتهمهما.
انحزت للخيار الثاني فأكلتُ التين والطين.. وكدت أغص، فتكتمت على شهقتي.
كانت خشيتي على الجندي الفلاح أكبر من محنتي مع الطين الذي أفسدَ متعةَ التين كلها. في بؤس حياتنا كنا قد أكلنا التراب دون مقابل، فلماذا لا آكل الطين مقابل مساعدة جندي مسكين؟
سعادتي بما فعلت من أجل إنقاذ الجندي من عقوبة وحدها هي ما جعلت الطينَ ألذّ من التين.