محمد عبد الوهاب يكتب: ماذا كان سيحصل للموسيقى لو عاش سيد درويش أكثـر من ثلاثين عاماً؟!

1٬147

ارشيف واعداد عامر بدر حسون /

أحدث “سيد درويش” صدىً بعيداً في عالم الموسيقى، ويعتبره الكثيرون المجدّد الحقيقي للموسقى المصرية. ومما لا شك فيه أن موسيقاه انتشرت انتشاراً كبيراً، وأحسسنا آثارها في كثير من الإنتاج الموسيقي الراهن، وقد سألت “الكواكب” الأستاذ محمد عبد الوهاب عن الآثار الفنية او الاتجاهات التي كان يمكن أن ينزع اليها “سيد درويش” لو امتدت به الحياة الى اليوم، فكتب يقول:
مما لاشك فيه أن المرحوم الأستاذ الشيخ سيد درويش هو أول من وضع أسس النهضة الأولى للموسيقى المصرية، هذه حقيقة لا يمكن إغفالها والتاريخ يسجلها له معتزاً فخوراً، ونقررها نحن معترفين بفضله وأثره. إن سيد درويش كان أول من لفت العقل الى المعاني في المقطوعات الغنائية المؤلفة، أعني أنه فهم المعنى كلاماً وأحاله الى كلام منغَّم يطابق كل المطابقة ما يرمي اليه الكلام المؤلَّف.. لقد كان الغناء قبل سيد درويش لا يحفل بالمعاني، وكنا نسمع غناء هو مجرد إظهار مهارة المغني ومقدرته بحركاته الصوتية في أداء النغمات، وما كان هناك ما يلفتنا الى المعاني في التأليف الكلامي..
لكن سيد درويش نفض عن نفسه هذا القيد، وأرادت طبيعته المبتدعة الثائرة أن تستحدث ألواناً جديدة في الغناء تغاير ما كان عليه لون الموسيقى في ذاك الوقت، فبذر أول بذر ألحاناً تعبر بالموسيقى عن معاني الكلام كل التعبير، فنحن نحس بإحساس الجماعة، وحين نسمع أغنية “السقايين” نحس أننا في غمار جماعة السقائين حقيقة، وكانت نغماته كأنها تنبع من قلوب هذه الطائفة.
إن سيد درويش اتجه نحو الطوائف الشعبية المختلفة فوضع لها في غنائه تعبيراتها واصطلاحاتها، كان غناؤه ينبض بالعواطف التي تجيش بها صدور العمال والزراع والحمالين والتحفجية الخ.. لم نكن نسمع ألحاناً تعطي صورة عن مقدرة الصوت في الحركات، ولكنا كنا نلمس عواطف الجماعات الشعبية حية تزخر بها ألحان “سيد درويش”، فسيد درويش من هذه الناحية أول من صور المعاني العاطفية والحسية وأبرز إبرازاً دقيقاً أجواء هؤلاء الذين حفل بهم إنتاجه الموسيقي من الطوائف الشعبية، وكأنه واحد منهم.
هذه أبرز صورة فنية في الإطار اللحني لإنتاج “سيد درويش”، ولكن لو امتدت حياة الموسيقار الراحل الخالد الى الآن فكيف كان يصل برسالته الفنية التي آمن بها وأفنى نفسه في سبيل تحقيقها؟
أنت تعلم أن حياتنا العامة والخاصة قد تأثرت بأساليب الغرب، فملابسنا ونظمنا، ومعظم تقاليدنا الآن، تسير على الأسلوب الغربي الذي سيطر على حياتنا ومظاهر نشاطنا الاجتماعي والفني، ولا ضرر في هذا، فالتأثر بالاتجاهات الأجنبية ومسايرة موكب النهضة العالمية شيء تحتمه سُنّة التطور.
وهكذا وجدنا اتجاهاً عاماً جديداً فسِرنا معه ولبينا نداءه وأدخلنا أساليب جديدة على موسيقانا واقتبسنا من الغرب لنطعِّم إنتاجنا الموسيقي، ولكن ليس معنى هذا الاقتباس أن نحطم روحنا وجوهرنا ونتخلى عن طابعنا الشرقي، علينا أن ندخل في الموسيقى الشرقية آلات جديدة نأخذها من الغرب، لتعاوننا في أداء الأنغام وإبرازها بشكل أوفى، وعلينا أن ندخل في ألحاننا أنغاماً جديدة وأن نلجأ الى التوزيع الموسيقي، ولكن علينا أن نحتفظ بروحنا الشرقي، وأن نترجم بالموسيقى عواطفنا الأصيلة، فتكون مخلوقاً شرقياً صميماً وإن بدا في ثياب غربية.
ولقد قلت إن “سيد درويش” ثار على التقليديين واختطّ لفنّه طريقاً جديداً لم يسبقه إليه أحد، فهو مبتدع لا يقبل أن يقتبس أسلوباً واتجاهاً ولا يقبل أن يطعّم إنتاجه الموسيقي بأي اسلوب او اتجاه سبق لغيره أن طرقهما، لهذا يصعب علينا أن نقرر قبول سيد درويش للاقتباس الفني لو كان حياً الى اليوم.
وكانت عبقرية “سيد درويش” تظهر في روعتها عندما يلحن الكلام المكتوب، فيصور ما فيه من المعاني ويضفي عليها الجو الملائم لها، ولهذا برع في تلحين الروايات المسرحية الغنائية، فلو عاش الى اليوم لحمل لواء المسرح الغنائي، وأقام نهضة رائعة للأوبريت، فقد كان هذا موضعه الصحيح الذي يتفق مع مقدرته ومواهبه.