معالمُ ثقافية وتحفٌ معمارية تحولت إلى مكبّات للنفايات

858

محسن ابراهيم /

منذ العرض الأول للأفلام السينمائية في دار الشفاء في بغداد ليلة السادس والعشرين من تموز 1909, باتت العروض السينمائية تشكل ثقافة جديدة لدى المجتمع البغدادي, ما دفع أصحاب رؤوس الأموال، الذين بدأوا بالاهتمام بالأفلام، الى افتتاح العديد من دور العرض السينمائي في بغداد حتى بلغ عددها أكثر من (70) دار عرض. بدءاً من هذا العدد من مجلة (الشبكة العراقية) سنستعرض أبرز دور العرض السينمائي في العراق وتاريخها.
تقليد عائلي
نقرأ في الصحف القديمة أن العراقيين كانوا من أكثر رواد دور السينما في الشرق الأوسط، وكانت دور العرض آنذاك متخصصة، أي أن داراً كانت متخصصة بالأفلام الهندية وأخرى بأفلام الحركة (الأكشن) وثالثة بالأفلام العربية وهكذا. وكان غالبية روادها من التجار والمعلمين وطلبة المدارس والمثقفين، وأصبح الذهاب الى السينما تقليداً عائلياً، وخصصت الدور مقاعد خاصة لها. ومع مرور السنوات، أصبح طقساً للمجتمع البغدادي بمختلف شرائحه، خاصة أن الرقابة التي فرضها أصحاب الدور والمسؤولون في اختيار الأفلام الجيدة، جعلت من دور السينما ملاذاً للأسرة العراقية.
درجات ودعاية
كانت دور العرض تقسم على ثلاث درجات: أولى وثانية وثالثة، وكانت تعرض أفلاماً متنوعة في أوقات معلومة تبدأ عند الساعة العاشرة والنصف صباحاً والدور الثاني في الثانية والنصف ظهراً و الثالث في الرابعة والنصف عصراً وفي السابعة والنصف مساءً والأخير في التاسعة والنصف ليلاً. كانت وسائل الدعاية لجذب المشاهدين بسيطة عن طريق الصحافة او من خلال عربات يستأجرها ملّاك الدور ومستوردو الأفلام تتجول في الشوارع، الرشيد خاصة، وعليها منادون يشيرون الى الأفلام فضلاً عن آخرين يقفون أمام دور العرض ويلفتون الانتباه الى الأفلام. أما أسعار تذاكر الدخول فكانت حسب درجاتها، مثلاً أسعار المقصورة المكونة من (4) كراسي كانت (550) فلساً وسعر تذكرة كرسي في موقع ممتاز كان (130) فلساً.
دور السينما الآن
بعد سنة 2003 تضاءل عدد دور السينما ليصبح خمسة دور فقط, وتحول الباقي الى مخازن وورش نجارة ومجمعات طبية ومحال لبيع المشروبات الروحية.
صالات شارع الرشيد
منذ افتتاحه، أصبح شارع الرشيد محط أنظار أصحاب الصحف والمطابع والشركات والمحال التجارية والمقاهي والمصورين، خاصة بعد تبليطه سنة 1926, فقد افتتح العديد من دور السينما فيه بعد أن أصبح شريان بغداد الحيوي، ومن بينها سينما روكسي الشتوي التي تحولت الى مسرح النجاح واستغلتها الفرقة القومية للتمثيل, وسينما روكسي الصيفي, سينما ريكس, سينما الزوراء في منطقة المربعة, سينما برودواي, وسينما الوطني مقابل اوروزدي باك, وسينما الرشيد, وسينما الرافدين الصيفي في منطقة السنك, وسينما رويال, وسينما سنترال التي تقع في الشارع المجاور للمصور الشهير آرشاك, وسينما الحمراء لصاحبها رجل الأعمال عصام شريف, وسينما القاهرة الصيفي المطلة على تمثال معروف الرصافي وحلت محلها سينما الرصافي الصيفي، وسينما الشرق في باب المعظم.
صالات الباب الشرقي وشارع السعدون
لا تختلف منطقة الباب الشرقي، وشارع السعدون تحديداً، بأهميتها عن شارع الرشيد حين كانت الشريان الثقافي والفني لبغداد لكثرة المكتبات وقاعات العرض الفني ودور العرض السينمائي فيها ومن هذه الدور: سينما الخيام التي كانت من أرقى الدور وأفخمها آنذاك، وسينما غازي التي كانت تحاكي صالات العرض في شارع برودواي بمدينة نيويورك وتم هدمها بسبب إنشاء جسر الملكة عالية (الجمهورية) وحلت محلها حديقة الأمة, وسينما غرناطة التي حلت محل سينما ريو، وسينما النجوم الأنيقة والمزججة جدرانها بقطع المرايا الصغيرة، وسينما ميامي التي انفردت بعرض اول فلم عراقي سياسي وهو (سعيد افندي) من بطولة يوسف العاني وعبد الواحد طه وزينب، وسينما الحمراء التي حلت محلها سينما ديانا, وسينما الأورفه لي (السندباد)، وسينما أطلس وكانت أساساً معرضاً كبيراً للمكائن و الآلات الثقيلة لصاحبه رجل الأعمال مهدي طعيمه الذي باعه فحوله المالك الجديد الى سينما جميلة المنظر، وسينما النصر, وسينما سميراميس, وسينما بابل. وكانت دار سينما الزوراء في شارع الرشيد – منطقة المربعة تمثل حينها تحفة فنية رائعة، وسنتناول في هذا الموضوع تاريخ هذه التحفة المعمارية:
سينما الزوراء
في سنة 1937، صمم هذه الدار وشيدها المعماري نعمان منيب المتولي المولود في اسطنبول عام 1898 لصاحبيها الياس دنوس وسليم شوحيط، وكانت تعد من أجمل معالم شارع الرشيد. اقتبس المتولي تصميم السينما من تصميم دار سينما يونفيرزوم الشهيرة في برلين، التي أنجزها المهندس الألماني (أريخ مندلسون) عام 1927. كان تصميمها الداخلي على شكل نصف دائري يشبه تصميم دار أوبرا, وكانت تتكون من ثلاثة طوابق: الأرضي والوسط الذي كان مخصصاً للشخصيات المهمة ويضم ثماني مقصورات فقط، والعلوي الذي كان أوسع من الأرضي، وكانت الدار تتسع لسبعمئة شخص. من الخارج كانت عبارة عن تحفة فنية من الزخارف والنقوش الإيطالية، وكان في أعلى السينما تمثالان على شكل ملاكين ممددين يتوسطهما التاج الملكي بشكل يوحي وكأن الملاكين يحرسان هذا التاج، الذي إزيل بعد تموز 1958 وظل مكانه خالياً (الملاكان موجودان لحد الآن). تغير اسمها في ستينات القرن الماضي من الزوراء الى سينما الشعب ثم الأنوار لفترة بسيطة قبل أن يعاد تسميتها بالزوراء. قدّمت في أول عروضها أفلاماً للرعايا البريطانيين، ومن بين الأفلام التي عرضت فيها فلم الجاسوسيّة (المخابرات البريطانيّة) للممثّل بوريس كارلوف. في منتصف التسعينات تحولت السينما الى مسرح يحمل اسم مجمع الزوراء, قبل أن يأفل نجمها وينتهي الى الأبد لتتحول الى مخازن لبعض تجار العدد اليدوية وتتجمع أمامها أكوام النفايات، وتم صبغ واجهتها، التحفة الفنية، بألوان قبيحة ونسيت أنها كانت معلماً ليس من معالم شارع الرشيد فقط إنما من معالم بغداد، وليس مستبعداً إن استمر هذا الإهمال أن يتم هدمها وتحويلها الى مول..!