ياسين المحمداوي استعادة الأساطير العراقية عبر خطاب اللوحة..
علي حسن الفواز /
بحساسية طفولية كان يرسم ياسين المحمداوي عوالمه البصرية، إذ يستكنه من خلالها الأفكار والموجودات، وليؤسس بنية بصرية يمتزج فيها التشكيل والتأسيس، وهذا ما أعطى لها هامشاً تعبيرياً، تتبدى من خلاله فاعلية السردية البصرية، ومهارة أدائيته في التعامل مع الأشكال والرموز، فالمحمداوي وجد في تقانة الخط وفي مستويات اللون، وفي تركيب الأشياء مجالاً لإبراز خبرته في ترسيم حدود لوحة فنية لها أفقُ العالم من جانب، ولها طاقة الإفصاح عن رؤية بصرية تتزواج فيها حداثة نظرته مع استغواراته الرمزية للرموز والإشارات والأساطير في العراق القديم من جانب آخر..
استعادة الفنان الراحل ياسين المحمداوي بعد ستة عشر عاماً على رحيله هي استعادة لتجربة عراقية لها خصوصيتها الجمالية والبصرية، ولها فرادتها في مقاربة سرديات اللون، بوصفها مشغلاً تجريبياً وتعبيرياً، فهو يحتفي باللون الترابي لأنه الأكثر واقعية، مثلما أن احتفاءه بالخط وبالكرافيك وبالحفريات والنتوءات يعكس وعيه برمزية هذه الوحدات، وبتعالقها السيميائي مع الذاكرة العراقية، وهذا ما يجعل لوحات المحمداوي بعيدة عن أي قياسٍ توصيفي، وحتى عن أية مقاربة تجريدية، ليس لأنه لاينحاز الى التجريد، بل لأنه يجد في التقانة التعبيرية أفقاً لوعي العالم، وللاقتراب من موجوداته، تلك التي تبدو أكثر وضوحاً في رسوم الأطفال، أو في الرسوم ذات الحمولات البدائية، أو حتى في الرسوم التي تلامس روح الفلكلور والمكان والذاكرة الشعبية، والمهارات الحرفية التي تنهل من الموروث الشعبي قيمتها ودلالاتها..
سرديات اللوحة..
تاريخ التشكيل العراقي يرتبط بفكرة التجديد، وبمقاربات المدارس الأوروبية، التي سعت عبر تجارب مهمة ورائدة الى تجاوز ماهو تقليدي الى ماهو معاصر، أو مايرتبط بالتحولات الكبرى التي شهدتها فنون التشكيل والنحت والألون في أوروبا، ولاسيما المدرسة الايطالية، والمدرسة الفرنسية، والمدرسة الإنكليزية.
وإذا كان هذا المسار هو الأفق الذي اقتربت منه المدرسة العراقية على مستوى التجريب والتجديد، فإن كثيراً من رواد هذه المدرسة، ومن بعدهم، وجدوا في البحث عن الهوية العراقية أو عن موروثها وذاكرتها مرجعاً رمزياً للاستغراق في قيم تلك الهوية، وفي التعاطي مع شفراتها المدينية، والتي ارتبطت بطقوس العبادة والمعيش والزواج والصراع الاجتماعي في إشارة الى طبائع الحياة، والى مرجعياتها في الحضارات السومرية- الميسانية والبابلية والأكدية والآشورية، بوصفها حضارات عراقية، لها عمقها في الأساطير والمثيولوجيات وفي نظم العمران الثقافية والمعرفية، وحتى في استخدامها للألوان وللأشكال ذات الطابع الفني أو التشخيصي..
ما نهله ياسين المحمداوي من هذا الإرث يؤشر مدى وعيه لأهمية البحث عن الهوية، ليس بوصفها الأنثربولوجي بمستوياته اللغوية أو الطقوسية حسب، بل بدلالتها التمثيلية لنمط متعالٍ من الحياة ذات الطابع المدني، ولعمقها الدلالي/ التعبيري وهو يعكس تلازم المعيش مع الجمال، والقوة مع الحضور، فكانت اشتغالاته اللونية على سطوح القماش او الجدار، واستخدامه الكتل الخشنة، والنتوءات، وحتى الحفر في السطوح المعدنية، واستخدام بعض الأجزاء الصلبة تفصح عن طبيعة الوعي الملحمي الذي يساكنه، وكذلك تأثير الاتجاهات الواقعية في المدرسة الايطالية، والذي أدرك أهميته المحمداوي من خلال اشتغاله على طبائع الحياة العراقية، وعبر الاستغراق في جذورها الأسطورية، وفي ملاحمها وأسفارها وطقوسها، وفي تلّمس أثر موروثها الشعبي بوصفه نسقاً مضمراً يختزن (وعياً شقياً) وصراعاً عميقاً، ولاسيما الموروثات الجنوبية وفي مدينة العمارة بشكل خاص، إذ كثيراً ما تستغرقه تلك المدينة، عبر استعادة سرديات حيواتها، ووجوه نسائها، فهذه السرديات تتحول الى شفرات تُستقرأ من خلالها أهمية الفعل التخيّلي على تشكيل ملامح وسمات المكان وللشخصية، وللتعبير عن ذلك من خلال اللون وتوزيع الكتل والوحدات على سطح اللوحة. ورغم أن المحمداوي الأكاديمي يدرك أهمية الدقة المنهجية في بناء اللوحة، والسطح والكتلة، إلّا أنه كثيراً مايتمرد على ذلك، ليبدو وكأنه ينهل من حيوات الأطفال، أو يعيد تصميم (شخبطاتهم) على السطوح ليصطنع لنا عالماً أكثر صدقاً في التعبير عن خطابه، وفي تمثيل وعيه لأهمية البناء السردي في اللوحة، بوصفه نظيراً للبناء الملحمي أو التعبير ذي الإشارات الأسطورية..
الجمال بوصفه خطاباً
خصوصية التشكيل الجمالي في لوحات ياسين المحمداوي تكتسب أهميتها من خلال بحثه الدائب عن المعنى الغائب، وعن روح اللوحة، وعن فاعلية الأثر في بُعده الزماني، وفي بُعده السيميائي، إذ يفترض هذا الأثر مجالاً تأليفياً على مستوى وعيه للجمال في تقاناته اللونية، وفي توزيع الوحدات على السطوح، وإبراز ماهو متسق، أو مختلف، وباتجاه أن تتحول تلك السطوح الى موحيات عميقة، تكشف عن وعيه العميق للموروث العراقي، ولذاكرة الأثر الغائرة في حيوات السومريين الجنوبيين، وفي عاداتهم وطقوسهم، وفي ملامح نسائهم، أو في ملامح جنودهم الذين تتشابه حروبهم القديمة مع الجديدة، حتى لتبدو الوجوه الصلبة والخشنة والشائهة أكثر تمثيلاً لرعب تلك الحروب، ولطبيعة ما تضمره في أنساقها من علامات للموت والخوف..
بساطة اللوحة التي يرسمها المحمداوي هي الوجه الأكثر براءة للجمال، إذ تتطلب تلك البساطة الوضوح والتعبير، وإغناء السطح بدلالات تعبيرية حية، لاتفلسف الجمال بقدر ماتبرزه، أو توحي اليه، وهذه مهمة كبيرة وخطيرة في اشتغالات المحمداوي