أريدُ أمي لتلملمَ جراحي
رجاء خضير /
وجع القلب من يشفيه، بدأ يتسلل الى الروح، بل حتى أبعدُ نقطة في الجسد، وبعد ماذا سيكون المصير؟ ونبدأ بالبحث عن ملاذٍ آمنٍ تسكن فيه الروح العاتية والقلب الموجوع عساهما علينا أن نلملمَ ما تتركه الأيام لأنّ الحياة ماضية لا تتوقف عند أية محطة مهما كانت غالية على قلوبنا، وعلامَ التوقف؟
ومنْ نعشقهم ليسوا في الانتظار بل ركبوا أجنحة من هواء ومزقوا أشرعة موج عالية وبعثوا لنا برسائل لا تحمل حروفاً.
وبعد.. نُريد أن ننسى جروح الأيام..
افعل ما شئت أيها الزمن.. وأنا أول من يصفق لك.. سأصفق لك أيها الزمن فهلّا مضيت؟!! الراحة والأمان ليتخطيا زمناً ضاع فيه الحلم والرجاء ويبحرا مع أمواجٍ ليس لها قرار، وهذا هو التيه الحقيقي…
شابة صغيرة تسكن أحد الأحياء القريبة من بغداد، جميلة هادئة، قالت: نشأتُ في أحضان عائلتي السعيدة التي تطعمنا حباً وتسقينا حناناً، فهمتُ الدنيا وأنا أناديها (أمي)، تعطف عليّ وترعاني بشكل لافت للنظر، دخلتُ المدرسة ولم أعرف غيرهما (أمي وجدتي)، أما جدي فكنت أظنه أبي. في المدرسة عرفتُ أن من أناديها بـ(أمي) ليست أمي وإنما هي عمّتي (شقيقة والدي) الذي طلّق أمي وأخذني منها وأنا لمّا أزل صغيرة جداً!! بكيت حينما عرفت ذلك من صديقاتي وإيضاً من إحدى المعلمات التي هي جارة لنا. عدتُ الى البيت أبكي وأصرخ بأنني لن أذهب بعد الآن الى المدرسة لأنهم قالوا عني أني(…..!) وحدثتهم بما جرى، اصطحبتني أمي، أي (عمتي)، الى المدرسة وتحدثت مع المديرة والمعلمة بعيداً عني.. وهكذا عدتُ الى المدرسة لأصبح المتفوقة الأولى فيها، كان هذا بفضلها هي، هي التي تشرف على تدريسي ورعايتي، لقد كانت مدرّسة مادة الكيمياء في احدى الثانويات الحكومية.
لم تفارق ذاكرتي تلك الحادثة الصغيرة، كنت أفكر فيها وأخشى مصارحة أمي لئلا تطلعني على الحقيقة. كانت تلفت انتباهي أحاديثها مع جدّتي، وحينما أجلس معهما تلوذان بالصمت.
كبرتُ وأصبحت في المرحلة المتوسطة، وحينما طلبوا منا بعض المعلومات والوثائق انتبهت الى أن دفتر نفوسي يحمل اسم أمي الحقيقي وهو غير اسم أمي التي معنا في البيت! عدت الى البيت بعد انتهاء الدوام وأخرجتُ هوية الأحوال المدنية ووضعتها أمام أمي وطلبت منها تفسيراً لأنني كبرتُ وعليّ أن اعرف كل شيء، فقالت حينها:
نعم.. أنتِ كبرت وعليك أن تفهمي الحقيقة كاملة: أنا لستُ أمك الحقيقية، أنا عمتك شقيقة والدك الذي طلّق والدتك بعد ولادتك مباشرة لأسباب عدة أولها عدم التكافؤ بينهما، إذ كان التفاهم بينهما مستحيلاً، عندك أخت أكبر منك بسنتين، اتفقا أن تكوني أنت من نصيب والدك، أما اختك الكبرى فقد أخذتها أمك.
وصرختُ: أحقاً أن لي أختاً ولم أكن أعرف طوال هذه السنين؟ ألم تسأل أمي عني: ألم تشتق لي؟ قالت: هذا هو الاتفاق بين والديك، لا تتصل هي، لا يتصل هو، كل منهما في طريق، بل أنه هدد أمك إن هي اتصلت فسيأخذ حضانة أختك الثانية منها، وها أنا قد كرست حياتي لرعايتك وتربيتك، لأن والدك قد سافر وتزوج هناك، بل أنجب بناتاً وأولاداً… صُدمتُ بما سمعتهُ من عمتي، عفواً (أمي)، وعلى إثرها مرضتُ ورقدتُ في الفراش، حدثني أهل والدي أن هذه الأمور تحدث كثيراً بين العوائل وسألوني: هل قصَّرنا بحقكِ! هل طلبتِ شيئاً ولم يلبَّ و…و… بكيتُ ودفنتُ رأسي في حضن أمي… نعم لم أنادِها عمتي، هي أمي…
مضت السنون سريعة وعاد والدي من السفر واحتضنني وقبّلني كثيراً، وببرود واضح تجاوبت معه، حدثني طويلاً عن مسيرة حياته، وقدم لي إخوتي وأخواتي من زوجته الثانية، تبادلنا التحية ودخلتُ غرفتي، سمعتهُ يخبر جدتي (أمه) بأنه اشترى بيتاً قريباً منا، لذا كنت أراه دائماً…
في يوم طلبت من أمي (عمتي) أن تريني صورة أمي الحقيقية وصورة أختي: غضبت عليّ وطلبت مني ألّا أكرر هذا الأمر وإلا ستعاقبني، ونسيتُ الأمر.
اصطحبتني في احد الأيام لزيارة أقارب لنا في منطقة قريبة من بيتنا، وفي الطريق تعطلت السيارة بنا، ما اضطرنا للنزول لاستئجار سيارة أخرى، وقف لنا شاب وسيم وسأل عمتي عن وجهتنا وأكدَ لها أن سيارات الأجرة هنا قليلة والليل سيحلّ، وعرض عليها توصيلنا، ولا سيما أن بيتهم في المنطقة نفسها التي نروم الذهاب اليها، اقتنعت (عمتي) وصعدنا معه، وفي الطريق دار حديث بينهُ وبينها والتزمت أنا الصمت ، كنت أرغب بالحديث معه، يبدو أنه انسان مؤدب وعلى خلقٍ، أعجبتُ منه حينما أعطى عمتي رقم هاتفه، بل طلب منها أن تتصل به في أي وقت إذا احتاجت أية مساعدة….
من يومها لم تفارقني صورته، واستطعت الحصول على رقمه منها دون علمها، ونشأت بيننا علاقة حميمة وأصبحنا أصدقاء، حدثتهُ عن تفاصيل حياتي، كان ينصحني كثيراً ويطلب مني طاعة عمتي وأهلي وأن اهتم بدراستي وأحقق ما أطمح إليه، استمرت علاقتنا جيدة، وعلمت عمتي بهذه العلاقة وصارحتني، لم أنكر بل شرحتُ لها كل شيء يدور بيننا من أحاديث وأخبرتها بأنه ينوي خطبتي بعد إكمال الإعدادية فأنا على أبواب الامتحانات التي ستحدد مصيري، صرخت بوجهي، بل صفعتني بقوة، وهذه هي المرة الأولى التي تضربني، ثم بكت نادمة وبكيتُ معها وتوسلت بي أن أتركهُ، وسألتها لماذا؟ فهو إنسان جيد وصادق، اضطررنا للسكوت حينما دخل والدي علينا وسألها عن سر هذا النقاش وعصبيتها، لا أعرف كيف تلبستني الجرأة والقوة فقلت له كل شيء، استمع ولم يقل حرفاً وخرج. ومن يومها تغيرت عمتي معي، لكني لم أتركها، تقربتُ منها أكثر و…و… وفي يوم جاء والدي ليخبرنا بأنه سأل عن الشاب وأكدت جميع المعلومات بأنه من عائلة محترمة ومعروفة في منطقتهم، أكمل دراسته ولكن لم يحصل على وظيفة للظروف التي يمر بها البلد فعمل عملاً حراً.
صرخت عمتي: هذا يعني أنك موافق على هذه الزيجة، أجابها بحزم: نعم، ولكن بشرط أن تكمل دراستها.
كنت ألاحظ عصبية عمتي في سلوكها وتصرفاتها حتى في مدرستها، انتبهت بعض صديقاتها المقربات منها الى ذلك، فحدثتهم بالأمر الذي يضايقها، وطلبتُ منهن مساعدتي بذلك وإقناعها… ونجحتُ في استمالتها الى صفي والموافقة عليه، أبلغته بالأمر، طار فرحاً.. وفي اليوم نفسه جاء أهله لزيارتنا وطلبني بشكل رسمي، تحدثوا عن كل مستلزمات الخطوبة وعقد القران و… أسكتتهم عمتي بقولها: لن يحدث شيء الى حين إكمالها الامتحانات وطلبت منهم التريث بالأمر!
وسط ذهول الجميع أغلق الموضوع طوال فترة الامتحانات. في إحدى الليالي، وحينما كنت أدرس تناهى الى سمعي صوت عمتي تتحدث الى شخص ما سمعتُ أنها تهدده إن هو أقدمَ على أمرٍ ما: وتصفهُ بأنه إنسان لا يستحقني و… وفكرتُ، هل هي تتحدث مع حبيبي؟
أم أنها تتفق مع شخص آخر ضد خطيبي؟! لم أتبين الأمر.
حاولت النوم ولم أستطع، فقررتُ أن أصارحها بما سمعته صدفة، وفي الصباح حدثتها بما سمعتهُ، تغيرت ملامحها وحاولت الإنكار، لكنني حاصرتها، فاعترفت لي بأن (حبيبي) إذا أصر على موقفه بالزواج مني فسيدفع عمره ثمناً لهذه الزيجة!
وصرختُ: لماذا يا أمي؟ لماذا يا عمتي؟ أنا لم أعدُ افهمك، صارحيني يا عمتي…
قالت وبصوت مخنوق: لقد وعدت الرجل الذي أحبُه، وابنه شاب وسيم وجذاب، على أن يتزوجني الوالد، (تعرفين جيداً أن قطاري قد غادرني… وهذه فرصتي الأخيره)، ويتزوجكِ ابنهُ: وهكذا نبقي سوية طوال العمر!!
صرختُ وبكيتُ وذهبت الى والدي أبحث عن عنوان أمي، احتاجها الآن، احتاجها الآن!!! لأشكو لها ما أنا فيه، سوف انتظر… انتظر.