زوجٌ جاحد وابنةٌ أكثـر جحوداً
رجاء خضير /
عواصف قوية تعصف في داخلي تريدُ الخروج إلى الفضاء، لكن صوتاً ملائكياً يسكُتها آنياً لتعود مرة أخرى ويتأجج السؤال: لماذا نفتقدُ زمناً جميلاً ولّى ومع ذلك بقيت خيوطه تأسرنا كلما اكتشفنا صعوبات زمنٍ نحن فيه؟ وانبرى الصوت الهادر “عُد إليّ وامسح غبار سنين تاهت منا في طرق متشعبة ليس لها دليل” عندها سأكون… وتكون ويحيا جميع من معنا!!
قالت دون تردد: أنا لستُ صاحبة القضية بل إحدى شخصياتها… إنها تتعلق بأختي الصغرى وأمي… وإليكِ الأحداث …
عشنا أنا وأختي سعيدتين مع أمي التي أفهمتنا أن والدنا فُقد في إحدى الحروب التي خاضها العراق، ولكنه لم يتركنا نصارع الفقر وشظف العيش، بل بالعكس كان راتبه الشهري يكفينا… هذا ما عرفناه من أمي التي أشرفت على رعايتنا ودراستنا، كنا نطيعها في كل الأمور…
كنت انتبه لها أحياناً عندما تختلي في غرفتها ثم تخرج وعيناها متورمتان من البكاء وحين أسألها: ما بكِ يا أمي؟ تجيب باختصار: لا شيء… تذكرتُ والدك…
مضت السنون وأصبحنا في المرحلة الإعدادية، وفهمنا الدنيا قليلاً بالاختلاط مع الصديقات وزميلات الدراسة ومن بعض الأقارب الذين يزوروننا بين حين وآخر، وعرفنا من عمّي بأن لنا ميراثاً معهم هو حصة والدي، وحينما كان يتحدث مع أمي بالأمر كان يعمد إلى خفض صوته، إذن هناك شيء ما يحدث ولا تريد أمي أن نعرفه، بعد خروجه من بيتنا سألتُ أمي عمّا دار بينهما، نفت أي شيء، وتركت الموضوع، فهي لها حق التصرف بكل شيء، أمنا التي وهبتنا كل شيء وحرمت نفسها من مباهج العيش هي التي تعرف مصلحتنا …
انقضت سنوات الدراسة ودخلتُ الكلية التي كانت تريدها لي أمي، نعم فرحتُ من أجلها فها هي ثمرة نضالها قد أينعت، أما أختي الصغرى فهي متميزة أيضاً بدراستها ولكن أمي تقول لي: إنها أقلُ منكِ تميزاً.
وفي المرحلة الأخيرة من دراستي تقدم ابن عمي لخطبتي، إنسان وسيم وموظف في إحدى الدوائر الحساسة، سألتني أمي عن رغبتي بالزواج منه أو رفضهُ، فأجبتها بأنني أحبهُ منذ مدة ولكني لم أبح بشعوري هذا لشخص.
تزوجنا وسط فرحة الأهل، ولاحظت أن أمي وسط كل هذه المراسم وازدحام الأهل والمعارف دخلت غرفتها، ثم خرجت متورمة العينين ليحدثها عمي على انفراد… لم أستطع معرفة ما بها. تزوجتُ وانتقلت للعيش في بيت عمي، والحقيقة أنهم جميعاً اهتموا ورحبوا بي كثيراً، وهكذا بقيتْ أمي مع أختي الصغرى، وكنت أزورهما باستمرار، وفي كل مرة تشكو لي أمي أحوال أختي وتغيّرها تدريجياً ولاسيما بعد أن تأتيها مكالمة لا تدري ممنْ! وفي يوم اتصلت بي أمي وأخبرتني بأن أختي تعدُّ نفسها للخروج بحجة حضور مناسبة لصديقتها، وطلبت مني أن أراقبها في الوقت المحدد لخروجها لأنها غير مطمئنة عليها، وفعلاً قدتُ سيارتي وذهبت الى بيت صديقتها لتخبرني بأن أختي لم تأتِ إليها، ولا مناسبة عندها، أفهمتها بأنني فهمتُ الموضوع خطأ واعتذرتُ منها وانصرفتُ، وأخبرتُ أمي بما حدث معي، فقاطعتني قائلة: هي ما زالت في البيت: سأحدثك حينما تخرج! انتظرت طويلاً في البيت وأخبرتُ زوجي بكل شيء، صمت ولم يقل شيئاً: بل خرج من الغرفة ليتحدث مع والده وحينما خرجت سكتا، وهنا صرختُ ما الذي تعرفانه وتكتمانه عني؟ أرجوك يا عمي ماذا تعرف عن أختي وعن أمي؟ هلّا أخبرتماني، خرج عمي من البيت دون أن يتفوّه بكلمة واحدة.
حاولتُ مع زوجي دون جدوى…
ذهبتُ لأمي لأعرف منها ما يدور، هي أيضاً التزمت الصمت.
صارحتُ أختي بمخاوفي ووالدتي عليها من أمور نجهلها فاعتذرت بأعذار غير مقنعة.
وفي يومٍ مرضت أمي بشدة وطلبت مني أن أذهب وأتسلم راتب والدي المتوفى، وهناك عند الاستلام وقعت عليّ صاعقة جعلت الدماء تتجمد في عروقي حينما أظهرتُ هوية أمي لأتسلم بها الراتب لأمينة الصندوق التي أخبرتني بأن والدي قد ضاعف مبلغ الحوالة هذا الشهر! شعرتُ بدوار وجلست على أقرب كرسي وهي تسألني: ما بك؟… بعد دقائق استجمعتُ نفسي وتسلمتُ المبلغ ووقعتُ على الاستلام وأنا لا أصدق ما حدث وما عرفتُ.
دخلتُ على أمي والغضب والشرر يتطايران من كل أجزاء جسدي، وكل كياني سؤال: لماذا يا أمي لم تخبرينا أن والدنا حيُّ ويعيش في دولة أخرى! وهو الذي يبعث لنا المال لكي نعيش؟
وهنا دخل عمي وزوجي ليسمعا الحوار، التفتُ نحو عمي وسألته… إذن هذا هو الموضوع الذي كنت تتحدث به بصمت مع أمي تارة ومع ابنك (زوجي) تارة أخرى، لماذا كلُ هذا التكتم: و…و… وأختي الصغرى هل تعرف بالأمر أجابني عمي: في الآونة الأخيرة استطاع والدكما أن يصل إليها بطرق عدة وكسبها إلى جانبه، بل أقنعها أن تلتحق به الى بلد الغُربة لتعيش معه ومع أولاده وزوجته هناك.
نظرتُ إلى أمي بشفقة وحنان، ونسيتُ كل آلام ما أخفتهُ عنا بشأن والدي الذي لا أعرف حكايته وسألتُ أين أختي، أجابني زوجي أنها في المطار كي تسافر إلى والدكما.
أمي… أمي كيف سمحتِ لها بالسفر؟ بكت وأجابتني بكلمات متقطعة: تأثير والدكِ أقوى مني عليها.
سنواتكِ التي ضاعت يا أمي… وشبابكِ، وتحملكِ الأعباء بمفردكِ و…و كل هذه الأمور لم تدفعها للتمسك بك!! وسرعان ما اشتاقت إلى الوالد الغائب أم اشتاقت لبلاد التحرر والتقدم والانفلات، قولي يا أمي ما سر أبي الذي سيبقى بعيني متوفىً دائماً.
قالت: والدكِ أُسِر في إحدى الحروب العراقية، بعدها هاجر الى بلد أوروبي وعاش هناك بعد أن أرسل لي ظرفاً، اعتقدتُ أنه يريد ضمّنا إليه أنا وأنتما وحينما فتحته وجدت ورقة الطلاق وكلمات معدودة، سأرسل لك كل شهر حوالة مادية للعيش!! وانقطعت أخباره عنا باستثناء ما نتسلمه منه.
وكان عمك قد أشار عليّ إما أن أبقى معكما أو أن أتزوج واترككما معهم في بيت جدك الذي مات حزناً وغيظاً من تصرفات والدكِ.. اخترتُ أن أعيش معكما وأنسى نفسي والزواج.. لقد حرمتما من الأب فهل أحرمُكما من الأم ايضاً، لم يكتفِ والدك بهذا الأمر فقط بل أقنع أختكِ وسلبها مني، ولم ترد على توسلاتي لها أن تبقى معي آخر أيام حياتي، فتركتها تختار ما يناسبها هذه كل الحكاية يا ابنتي الغالية…
احتضنتها وبكينا معاً لنغسل صدوراً رأت عذابات والآم سنين طويلة، علّها تشفى بعد مجيء المولود الذي انتظرهُ!!
اقنعتُ عمي وزوجي أن انتقل للعيش معها فلن أتركها بعد اليوم، وافقا مباشرة وهكذا عدتُ لأحضان أمي التي فقدت ابنتها الصغرى بتصرفات أنانية وحقدٍ من والدٍ جاحد بحق زوجته التي صانت أمانته بعد غيابه الطويل…
هي.. وأنا ننتظر ماذا سيحلُ بأختي التي باعت كل شيء… ترى هل سيصون هو الأمانة التي وصلته والتي تركها وهي طفلة عمرها عاماً واحداً!