لأجلك أفعلها ألف مرة
مقداد عبد الرضا /
“هيلن بطل الطروادة”, هكذا سمي الفلم وقتها, عند افتتاح سينما الخيام 1957, كانت العادة تجري أن الفلم الذي يعرض في سينما الخيام يذهب بعدها الى سينما روكسي عند بداية شارع الرشيد, وبعدها يعبر الى (ذاك الصوب) ليحط رحاله وليستقر في سينما بغداد (قدري). بيتنا كان قرب سينما بغداد, أخي الراحل كان يعرف شغفي بالسينما, نفعت توسلاتي, عرض الفلم, قتل هيلن في النهاية وتم سبي آمال الحبيبة, أخي أظنه لم يفهم الفلم إلا كمغامرة أجملها الحصان الخشبي, أنا وعند الخروج بكيت بكاء مراً, حاول أخي أن يفهم, أخبرته بأنني لم أحضر دروسي, لم أكن حقاً أعرف لم كل هذا البكاء, لكنني وبعد سنوات طوال وإلى أن اشتد عودي عرفت سبب بكائي, كان بسبب اندحار الجمال, هو ماعلمتني إياه السينما.
هو الإنسان, هو من تغسل أدرانه الطفولة, أو لنسمِّها البدايات, فبدون البدايات ترتبك الرحلة, لكن أحيانا تذهب هذه البداية الى طريق آخر, عنوة كانت أم رغبة, تنقلب المصائر فتتلوث البراءة وتندحر او تتشوه بفعل الانكسارات, المحبة تتقاطع وتتحول الى شظايا تدمع العين وتقرحها, هذا العنف الذي ابتليت به البشرية عبر تاريخها حول الحياة الى تعثر وهدم.
إن الإنسان مولود لكي ينفع, لكن صديقين عذبين يعيشان في أبهى حياة, فجاة يتحول الأول الى قاتل والآخر الى قتيل. ذلك هو الفيلم الأثير, (اطلق من خلال القلب 1998).
هذا الفيلم الذي يغطي حصار سراييفو خلال قتال البوسنة والمأخوذ من أحداث حقيقية, وهنا في فيلم (عداء الطائرة الورقية) الذي أخرجه مارك فورستر والمأخوذ عن رواية الأفغاني خالد حسيني يرى أمير نفسه في أمريكا بعد أن عاش طفولة رائعة يوم كانت البلاد تطوف على مدنية كبيرة, الناس أحرار فيما يفعلون, ليس هناك ما يعكر صفو الأرواح ورغباتها, نساء البشتون يكتبن قصائد الحب واللوعة بسرية معلنة وبسالة رائعة :
أنا أحب, أنا أحب
ولا أخفي حبي ولا أنكره
حتى لو انتزعوا بالسكين
كل شاماتي
هذا الألق، وهذه الجرأة سرعان ما اختفت يوم استباح العنف البلاد, الروس يدخلون وبعدها تستباح من قبل طالبان, كان أمير وحسن على أتم حال حتى العام 1976 , حسن أمي ويحب الطيور, وأمير يحاول أن يكون كاتباً للقصص :
( حسن: حول اى شيء تدور قصتك ؟
أمير: عن رجل وجد كوباً سحرياً ويعرف أنه لو بكى في الكوب فسوف تتحول دموعه الى لآلئ وهو فقير جدا. وفي نهاية القصة يجلس على تل من اللآلئ وفي يده سكين تقطر دما وزوجته بالقرب منه مذبوحة
حسن: هو من قتلها؟
امير:نعم
حسن: حتى يبكي ويصبح غنيا ؟
امير:نعم ها أنت قد فهمتها
حسن:لماذا كان على الرجل أن يقتل زوجته؟
أمير: لأن كل دمعة من دموعه تصير لؤلؤة.
حسن:إذن لماذ لايشم بصلاً ويحصل على الكثير من الدموع؟
وفي تصوره أن أباه يكرهه بسبب موت أمه أثناء الولادة وهذا مايجعله منطويا بعض الشيء، وفي داخله بعض من غيرة لحسن الأمي الذي يحب الطيور ويفوقه في كل شيء حتى في المحبة. حسن يحب أميراً كثيرا ومن أجله بإماكنه أن يلتهم التراب إن كذب مرة عليه. أمير يحلق عاليا بطائرته الورقية ويقطع خيوط الطائرات الأخرى. يهرع حسن لالتقاط الطائرات المتهاوية وهو يردد لأجلك أفعلها ألف مرة, أمير من البشتون من عائلة غنية جدا، أبوه صاحب أملاك وأطيان ولديه مشاريع كثيرة تخص الفقراء منها أنه تكفل ببناء دار للأيتام ويعرف أن نصف المبلغ الذي خصص لهذا المشروع سوف يسرق من قبل المتعهدين ويعتبر أن الخطيئة الوحيدة في العالم هي السرقة.
وحسن مسلم من الهزار ذكي ولماح وأبوه صديق لوالد أمير ويعمل عنده في البيت, حسن وأبوه يعيشان بكل ترحاب ومودة في بيت والد أمير, هما يفتقدان الى روح الأم وحنانها, أثناء اللعب نرى أن حسن يفوق أمير كثيرا مما يثير غيرته وانفعاله, وهذا ماسنراه لاحقا حينما يتم اغتصاب حسن من قبل الطفل آصف الخاسر في سباق الطائرات الورقية ومجموعة أصحابه من الأطفال حيث يلجأ أمير الى اتهامه بالسرقة.
رحيم خان والد حسن يغادر هو وابنه ويختفي, بعد سنوات (اى في العام 2000) من الخراب وتقاطع المصائر والعنف اللاذع يتلقى أمير الذي يعيش في سان فرانسسكو مكالمة من رحيم خان يرجوه العودة الى البلاد (مازالت هناك فرصة لتعود نقيا).
من هذه اللحظة يعود بنا المخرج الى تلك البدايات الحميمة, تحلق كابول عاليا بطائرات الأولاد, السوق مزدهر, الحياة تعاش بشكل صحيح حتى وإن اكتنفها الفقر, يقام حفل في المدينة تتقاطع فيها الطائرات الورقية, يدخل أمير بمساعدة حسن الواضحة (لولا حسن, أمير لاشيء), صوت الطائرات وهي تحلق في الفضاء ينعش الروح ويوترها, كلنا نود ان يفوز أمير لنفرح لحسن, وأخيراً يفوز أمير ويقطع آخر طائرة تعود الى آصف ومجموعته الشريرة, يركض حسن بكل سرور ليأتي بالطائرة المقطوعة والتي ستكون الفصل في علاقة حسن بأمير, أمير يشاهد عن كثب عملية اغتصاب حسن من قبل الشرير آصف هو ومجموعته, ينسحب دون أن يمد يد العون له, هل فرح أمير بهذا المشهد وأراد ان يتخلص من حسن, هل لايملك القوة للمساعدة, هل خاف هو الاخر على نفسه من الفعلة نفسها؟ كل هذه الأسئلة ترد حينما يحاول أمير إلصاق تهمة لحسن بالسرقة من البيت, لينسحب الأب والابن من المشهد تماما.