محلة التوراة جامعة الأديان الثلاثة

1٬214

كاظم غيلان /

اقترنت معظم المناطق السكنية (المحلات) في مدينة العمارة بأسماء شخصيات إدارية أو تجارية منذ تأسيسها، لا سيما تلك القديمة منها باستثناء محلة (التوراة) التي حملت اسمها بدلالة دينية في إشارة للكتاب وأهله (اليهود) الذين استوطنوا لسنوات طويلة هذا الحي السكني العريق الذي حافظ على تسميته التي رسخت في ذاكرة الأجيال ليومنا هذا برغم تغييره القسري رسمياً لمرات عديدة.
هذا الحي حمل تاريخاً يشير لألفة بني البشر برغم اختلاف دياناتهم، فقد توزعت بيوت ساكنيه بين ثلاث ديانات، هي (الإسلامية، المسيحية، اليهودية) وكدلالة على روح الانسجام والتآخي لا تزال المرويّات المتناقلة تشير لكل ما هو إنساني نبيل .
من الحنّاء إلى (قصر النهاية)
ما أن تتحدّث عن اليهود حتى يقفز اسم الطبيب اليهودي المعروف (داود كباي) الذي سكن هذه المنطقة وكانت العامة من الناس تضع الحنّاء على باب عيادته تيمناً وتبركاً ليده التي عالجت أمراضهم المستعصية منها والبسيطة، وبقي طبيبهم المفضّل حتى بعد مغادرته العمارة وانتقال عيادته إلى شارع (المشجّر) ببغداد وما زلت أتذكر كيف أجرى ختاني على يده ذات صيف ستيني فيها. رفض هذا الطبيب اليهودي الهجرة إلى إسرائيل برغم مغريات عديدة عرضت عليه لفرط حبّه الشديد للعراق وأهله حتى مجيء سلطة البعث الثانية 1968، إذ لفقت تهمة باطلة ضدّه زُجَّ على أثرها في معتقل (قصر النهاية) سيّئ الصيت وسافر بعدها مباشرة حتى توفاه الله بلندن عام 2003. إلا أنَّ ذاكرة الناس تزخر بمواقفه النبيلة وإنسانيته ليومنا هذا وقد ذكر في العديد من الأعمال الروائية؛ كتبها روائيون مسلمون عماريّون كنجم والي وسلام عبود وعبد الجبار ناصر. يهود محلة (التوراة) مارسوا أعمالاً تجارية شتى ولهم امتيازهم المعماري من خلال (الشناشيل) التي أبدعوا بأشكالها ولم تزل الذاكرة العمارية تحتفظ بذكرياتهم ووقائعها الطيبة، ويخبرنا كاظم المنشد بأنّ عدة زواج والدته (النيشان) كان قد اشتراه والده من تاجر الأقمشة اليهودي (نسيم) بينما يحدثنا أقدم مضمدي العمارة (فرحان مجيد) عن براعة (داود كباي) بالعمليات الجراحية، إذ رافقه في العديد منها أيام عمله في المستشفى الجمهوري عامي 1959- 1960.حتَّمت الهجرة القسرية التي فرضت على اليهود زوالهم من هذا الحي ومن العراق إلا أنَّ ذكرياتهم لم تزل متداولة بين الأجيال وقبل أكثر من عامين تلاشى آخر جدران معبدهم.
ناقوس (أم الأحزان) وعاشوراء
خطوات قليلة هي التي توصلك إلى (كنيسة أم الأحزان) والتي هي من أقدم كنائس مسيحيي العراق وبذات المحلة (التوراة) التي تأسَّست في العام 1880 بداية تكوُّن مدينة العمارة. تجاورها كنيسة (مار يوسف) للسريان الكاثوليك التي هي من أعمال التاجر المسيحي المعروف (حنا الشيخ). ومسيحيو العمارة ارتبطوا بعلاقات أكثر من وطيدة مع مسلميها حتى انصهروا في تقاليد المظلومية المشتركة، إذ لاغرابة في أن تجد شعائر ورايات عاشوراء بمدخلها الذي يوصلك لباب الكنيسة المُخضَّب بحنّاء نذور تركتها أصابع من شابات المدينة، وفي فضاء (أم الأحزان) قبور لعدد من أبناء الطائفة فضلاً عن قاعتها التي تشكّل هويتها (الصليب، العذراء، كرسي الاعتراف … الخ).
من المفارقات التي ترصدها في هذه الكنيسة أن عدد زوارها ومعظمهم من النساء (طالبات النذور) يفوق عدد أبناء الطائفة التي تراجعت بحكم الهجرة المرتبطة بالظروف الاستثنائية التي شهدها العراق. وللمسيحيين أعيادهم التي تفتح فيها الكنيسة أبوابها لتشهد أفراحاً وابتهالات للخلاص من كلّ عسر يمرّ به العراق.
سكنة التوراة احتفظت ذاكرة أجيالهم بدقات ناقوس الكنيسة ومشهد أسراب الحمام التي تحلّق في فضائها، بينما بابها الخلفي يطلّ على الجانب الآخر من المنطقة الذي يضجّ بالحركة والأصوات منذ ساعات الصباح الأولى .الكنيسة هذه راوية عصور شهدت تحوُّلات كبيرة في الحياة بأفراحها الشاهقة وانكساراتها المحزنة الحادَّة ولذا فهي محط اعتزاز ومحبّة الناس لما تفيض به من روح مسالمة عذبة هادئة كصلاة العذراء.
تؤدي الشوارع الفرعية الضيقة و(القيصريات) التي يشغل معظمها الخياطون من الجانب الأيمن إلى كلّ من مسجد (الأنصاري) وحسينية ومكتبة (الحكيم)، أما جانبها الأيسر فيوصلك إلى (جامع العمارة الكبير).. وبهذا تكون قد توصّلتْ لاكتمال لوحة حملت ألوانا لثلاث ديانات تآخى أبناء أجيالها واحتفظت البقية الباقية من بيوتها بـ (صدى السنين الحاكي) الزاخر بالوقائع المريرة والحلوة معاً، ولربما أسدل الستار عن معظمها بموت (كركين) النجّار الأذربيجاني الذي رحل عن الدنيا وهو يغمض عينيه الجميلتين، تاركاً نشرة الأخبار يبثُّها جهاز (الراديو) الذي لم يفارقه في محله المتواضع.