طيران بلا أجنحة
#خليك_بالبيت
رجاء خضير /
اذكريني مع نسمة الصباح حينما تداعبُ خصلاتك الذهبية وهي تترنحُ بدلال فوق جبينك الأغر، فأنا رفعتُ الراية البيضاء لتوأمكِ الذي غادرنا بلا وداع، وتشبثتُ بذكريات فيها السعادة والحنان عنوانان ملتصقان بي كما العشب الصغير حينما يلتصق بالأرض خوفا من إعصار قد يهب عليه في أية لحظة… هكذا أنا.
إذن… تعالي إليّ يا فراشتي الذهبية لنطير بعيداً عن هموم الأرض وأحزانها… فأنا لم أعد أقوى على التّحمل… ولنطرْ بلا أجنحة….
(س..) امرأة تقترب من الخمسين، يملأ الحزن عينيها ونبرة صوتها، تجلس شابة جميلة قربها وتحاول أن تخفف عنها ألمها الذي تختصره هذه الحكاية وهي أو دموعها ترويها.
كان الشاب الوسيم والناجح في عمله شقيقها الوحيد حنوناً عليها وعلى أمهما المقعدة وقد غمرتهما السعادة وهو يتزوج ممن أحبها سنوات وهي قريبتهم الجميلة وتشغل وظيفة مرموقة. وتضيف “عاهدت نفسي أن أقوم بكل واجبات المنزل لتتفرغ هي لشقيقي ولم أقبل أبدا أن تساعدني رغم محاولاتها العديدة، وهي تقول لي بأنني موظفة مثلها وكنت أناديها بالغالية زوجة الغالي وكان يسعدني امتنانها المستمر لي”. وعن أسعد خبر تقول: “جاء شقيقي وزوجته بخبر الحدث السعيد، إنّها حبلى بتوأم.”
وجاء التوأم، ولد وبنت، ولأهمية وظيفة الأم، لم تتمكن من التمتع بإجازة الامومة، وبفرح وبدون انتظار كلمة شكر أخذت إجازة سنة من وظيفتها لتهتم بالصغيرين واستمرت تتحمل كل مسؤوليات البيت والصغيرين ورعاية الام المقعدة وكانت السعادة تملأ أركان البيت لغاية ذلك اليوم الذي لم يعد فيه شقيقها إلى البيت بعد أن غادر موقع عمله، اتصلت زوجته بمديره وزملائه الذين أكدوا أنّه غادر الدائرة معهم بعد انتهاء ساعات العمل، ومرّ ذلك اليوم وتلته أيام وتم إبلاغ الشرطة، لكنّه لم يعد ولم تجد الشرطة رأس خيط للبحث عنه لا سيما أنّه كان ناجحاً في عمله وطيباً ويتمتّع بعلاقات حسنة مع الجميع. وفقدوا الأمل وعدّته دائرته مفقوداً وخيّم الحزن على البيت وتوفيت الأم كمداً. بالكاد كان الصغيران في السنتين من عمرهما وطلب أهل الزوجة منها أن تعود إلى بيتهم وتكمل حياتها بينهم لكنّها رفضت. استمر أهلها والأقرباء والأصدقاء في زيارتنا وأنهت الزوجة معاملات الزوج المفقود وتمّ حساب حصّة الصغيرين من راتبه التقاعدي وتحويلها إلى دائرة القاصرين. بعد أشهر ثقيلة ومتعبة، تقول (س.): “أبلغتني زوجة شقيقي بأنّها ستذهب إلى العيش مع أهلها”. كان الخبر كالصاعقة سألتها باكيةً: كيف لها أن تتركها وحيدة مع حزنها فأجابتها بأنها ستترك الصغيرين معها.
وبعد فترة ليست بالطويلة ارتبطت بزميلها وسافرا معا إلى الخارج لتحقق حلمها بالدكتوراه وتركت الصغيرين مع عمتهما في بغداد، وتساءلت (س..) كيف لها أن تترك الصغيرين وأن تنسى الحب الكبير الذي ربطها بشقيقها المفقود وحسنتها الوحيدة أنّها تركت لها البيت الذي كان شقيقها قد سجّله باسمها.
وبقيت الزوجة في الخارج والعمة (س..) تهتم بالصغيرين وكانت الام تتّصل بهما بين فترة وأخرى، ومرت السنوات و(س..) بين الوظيفة والاهتمام بالصغيرين اللذين كبرا وأصبحا في الإعدادية ومن المتفوقين وأصبح راتبها لا يكفي نفقاتهما لا سيما أن راتب التوأمين في دائرة أموال القاصرين، وشرحت الوضع للأم التي لم تقصر وبدأت بإرسال ما يكفي من أموال شهريا.
شرحت (س) للتوأم ظروف أمهما وكانا يشعران بالامتنان لتضحيات عمتهما لأجلهم وسهرها لراحتهما ومتابعة دراستهما. في السنة المنتهية في مرحلتهما الإعدادية، حاولت قدر إمكانها أن تكون هادئة ليحققا هدفهما بالالتحاق بكلية الطب وطوال هذه السنوات كانت علاقتهما بالأم عبارة عن مكالمات هاتفية فقط.
لم تفرح (س..) بحياتها كما فرحت وزغردت يوم إعلان الدرجات وحصولهما على معدل يؤهلهما لدراسة الطب.. وحدث ما لم يكن في الحسبان، ومرة أخرى لم تدم فرحتها، دونما موعد، جاءت الأم التي عادت إلى البلد لتطالب بالتوأم. بكت (س..) وأخبرتها أنهما سر وجودها في الحياة، فلماذا تأتي الآن وتطالب بهما؟ وأين كانت الأم عندما كانت هي تسهر الليالي اذا مرضا؟ أين كانت وهما يمشيان أول مرة وحين تعلّما الكلام ولم يجدا أمامهما الام بعد رحيل الأب؟
وأجابت ببرود أنّهما أصبحا شابين والمستقبل أمامهما وعليها أن تكون مسؤولة عنهما وأنّها قررت إرسالهما للدراسة في إحدى الجامعات الانكليزية! وصرخت (س..) مرة أخرى وقالت: “وأين كنتِ حينما تركتِهما وهما بأمسّ الحاجة لحنانكِ بعد أن فقدا والدهما وهما يمران بأدوار المراهقة وهما يدرسان، ويؤديان الامتحانات و…و… “، وقبل أن تنهي كلامها، صدمها ابن أخيها الذي تقدّم نحوها وحضنها قائلا: “عمتي الغالية لن ننسى فضلك علينا، لكنّها أمنا”. لم تتمالك العمة (س..) أعصابها وهوت على الكرسي غير مصدقة ما سمعته والتفتت إلى شقيقته التوأم التي أسرعت إليها وارتمت في حضنها وقالت بدموعها: “لن أتركك عمتي، سأبقى معك طول العمر “.
وقبل أن تغادر الأم مع ابنها او كما تقول (س..) مع ابن أخيها، التفتت إليها قائلة: “ابحثي عن سكن جديد، فقد بعتُ هذا البيت”! وانهارت (س..) بينما جمدت ابنة شقيقها في حضنها وبعد مغادرة الأم، دخل الجيران عليهما ليحاولوا تهدئتها بعد أن سمعوا كلما دار بينهما.
بعد تلك الحادثة الاليمة، انتظرت (س..) أن يعود ابن شقيقها، ومرّت الأيام ولم يأت، وبعد أسابيع عرفت من شقيقته أنّه غادر إلى إنكلترا للدراسة.. لم تتحمّل صدمة أن يسافر حتى بلا توديعها، وهي في خضم صدمتها، دقّ باب البيت، فتحته لتكتشف أن الطارق هو صاحب البيت الجديد وأنّه يمهلها ثلاثة أشهر لتغادره.. جمدت في مكانها وجاءت جارتها وقررت أن تحدثه بما واجهته من إنكار جميل.. استمع اليها جيدا وقال: “اشتريت هذا البيت أساساً للتأجير، ابقي فيه وحدّدي لي مبلغ الإيجار الذي تقدرين على دفعه”.. ولم تعرف (س..) كيف تشكره وجارتها. وتساءلت مع نفسها كيف يتعاطف رجل غريب مع قضيتها الانسانية في الوقت الذي أنكرتها زوجة شقيقها وابنه الذي ربّته.
تحاول (س..) أن تتناسى ما حدث معها، تنشغل بوظيفتها والاهتمام بابنة شقيقتها التي أصبحت تناديها (ماما عمّة) وقد نجحت من الصف الأول طبية إلى الثاني بتفوق.. وتتساءل لماذا حدث ما حدث ولماذا لم تسأل الام عن ابنها وابنتها الا بعد أن كبرا وأصبحا بعمر يستطيعان به الاعتماد على نفسيهما لتستمتع بأمومتها دون أي تعب وسهر..