التعايش مع الفيروس سيناريو متوقّع لحياة العراقيين
#خليك_بالبيت
إياد عطية الخالدي /
ومع تحطّم الآمال بنهاية طبيعية للفيروس أو إيجاد عقار على المدى المنظور، تستمر محنة البشرية في ظل الجائحة، الأمر الذي سيعيد رسم ملامح المرحلة المقبلة ويحدّد تحركات منظمة الصحّة العالمية ودول العالم في ما يتعلّق بانتشار وباء كورونا وأساليب مواجهته الجديدة.
مدير عام منظمة الصحّة العالمية تيدروس أدهانوم ما برح يحذّر من أنّ التّخلُّص من جائحة كورونا المستجد في العالم لا يزال بحاجة لوقت طويل، وأنّ غالبية الدول تعيش في المراحل الأولى من التّصدي له.
استراتيجية التباعد
وبينما تتضاعف كلف استراتيجية التباعد الاجتماعي، ووقوف الحكومات في العديد من الدول عاجزة عن توفير أسباب الحياة، للسكان الرابضين تحت سقوف الحظر المنزلي، ومع تراجع غير مسبوق في الاقتصاد العالمي وانهيار قطاعات كانت حتى قبل تفشي الجائحة تمثّل شريان الحياة لدول عديدة، لا سيما قطاعات النفط والطيران والسياحة، فإنّ جميع الدول بما فيها الدول التي نكبت بالفيروس باتت تعد خططاً تتيح العودة إلى الحياة عبر الاعتماد على مفهوم التباعد الاجتماعي، والاعتماد على ثقافة ووعي المواطنين والأجهزة الحكومة التي تمثّل ركائز أساسية في أية استراتيجية لمواجهة الفيروس.
وإزاء التداعيات الكبيرة التي تسبّب بها الحظر الصحّي على حياة الناس بوجود معطيات أنّه يمكن السيطرة على الوضع على عكس ما كان متوقعاً؛ انضمّ العراق إلى مجموعة من الدول التي خفّفتْ إجراءاتها الصارمة لمواجهة الجائحة.
لكنّ وزارة الصحة نبهت إلى أنّها ستعيد إجراءات الحظر المشدّدة اذا لم يلتزم الناس بقواعد التباعد وإجراءات الوقاية، في الواقع لم يظهر الكثير من الناس احتراما لقواعد التباعد الاجتماعي ولم يتقيدوا بإجراءات السلامة.
ولهذا يظلّ السؤال عن كيف يمكن أنْ نتخيّل السيناريو العراقي للتعايش مع الجائحة التي تؤكد المعطيات العلمية والصحية الا أنّها مرجّحة للامتداد لأشهر طويلة وربّما سنوات، وهو ما يفرض على العالم أن يكيّف نفسه للعيش مع الفيروس والخروج من المحنة بأقلّ الخسائر.
مؤامرة امبريالية
ففي ذروة المخاوف من فيروس كورونا أظهر سكّان بغداد الفقراء لا سيما في المناطق الشرقية تذمرهم من إجراءات الحكومة في إيقاف الحياة وإغلاق المحال التجارية، وبينما كان السكّان يرتعدون خوفاً من مشاهد الموت الايطالية كان فريقان شعبيان في مدينة الصدر يخوضان المباراة النهائية للبطولة الشعبية بحضور جمهور غفير يضرب عرض الحائط كل إجراءات الإغلاق والتباعد الاجتماعي، بينما يمضي العمال والكسبة في البحث عن فرص عمل تسدّ كلفة حياتهم ليوم أو يومين.
وضعت السياقات والتدابير التي اتخذتها لجنة وزارية برئاسة وزير الصحّة السابق صادق جعفر علاوي للحدّ من الانتشار الوبائي للفيروس ملايين العراقيين تحت خط تدمير لقمة العيش، في غياب جهد الحكومة المتأثر بانخفاض أسعار النفط وتحطم أذرعها بفعل الفساد وسوء الإدارة. كان حميد صكبان وهو أبٌ لخمسة أطفال يحاول عبثاً التقاط شخص ما يبحث عن سيارة تكسي في الشوارع المقفرة وترتسم على وجهه الستيني علامات الأسى على ما حلّ بالعالم وقلب حياة الناس رأساً على عقب.
لقد دفع العديد من الكسبة وبينهم سائقو سيارة الأجرة ثمناً باهظاً من جراء الحجر المنزلي، يقول صكبان وهو يضرب بقوة على مقود السيارة: “مصاريف ونفقات العيش والأطباء ومتطلبات الأولاد وإيجار الشقّة تخرج من إيرادات هذه السيارة، ليس بوسعنا أن نتحمّل أكثر، لقد مرّتْ علينا أوقات صعبة ولولا مساعدة الأهل والأصدقاء لكنّا نبات في الشارع، فليس كل المؤجرين يتفهّمون وضعنا الصعب”، “حاولت مراراً كسر حظر التجوال لكنّ الشوارع كانت مقفرة، وبالكاد تشاهد سيارات الشرطة تحرّك سكون المدينة”.
صكبان مثّل شريحة لا يستهان بها من العراق، لا تؤمن بوجود فيروس قاتل، وتؤمن أنّ الموضوع لا يعدو مؤامرة تدبّرها الدول الامبريالية”.
مخاوف
وفي الواقع فإنّ المخاوف من تأثيرات كورونا طالت حتى الموظفين والمتقاعدين البالغ عددهم نحو ستة ملايين شخص ممن تموّل مرتباتهم من إيرادات النفط الذي انتكست أسعاره بشكل غير مسبوق في التاريخ، فثمة أخبار وشائعات تتحدّث عن تخفيض الرواتب أو تعويم العملة لمواجهة العجز في ميزانية الدولة في وقت تسلّمتْ فيه حكومة جديدة برئاسة مصطفى الكاظمي قيادة البلاد وسط ظروف وتحديات بالغة التعقيد.
وبعثت المالية البرلمانية برسائل إلى الموظفين والمتقاعدين تطمئنهم فيها على استمرار تدفق رواتبهم دون خفض أو تأخير وكشفت اللجنة المالية النيابية عن مصادر تأمين رواتب الموظفين والمتقاعدين.
ونقلت “واع” عن عضو اللجنة المالية في البرلمان النائب أحمد الصفار تأكيدات بأنّ”رواتب الموظفين والمتقاعدين مؤمّنة لهذا العام بسبب الأموال المدوّرة من الأوقات التي شهدت ارتفاعاً في أسعار النفط وأيضا بوجود احتياطي في البنك المركزي، إضافة إلى وجود فائض من الوزارات التي لم تستنفد ميزانياتها”. الأمر الذي ولّد حالة من الارتياح لدى هذا القطاع المؤثر في حركة السوق العراقية وانتعاشها، وبدّد سحب الشائعات التي خيّمتْ على المواطنين العراقيين.
الدومينو
بينما كان الناس يتدافعون أمام الصيدليات للحصول على كمّامات ومطهّرات فإنَ عشرات الناس يرفضون تغيير حياتهم ويقضون يومياتهم دون تقييد.
محمد قاسم الذي اعتاد أن يقضي ساعات الليل برفقة أصدقائه بمقهى الكسرة الشعبي بلعب الدومينو، اقتطع مساحة من الرصيف أمام بيته ليحوّلها إلى مكان ملائم للعب الدومينو مع ذات الأصحاب الذين باتوا يقطعون مسافات محدودة للوصول إلى بيته، في مقاومة للأنماط التي فرضها الفيروس على حياة السكّان.
وعندما تتحطّم كلّ الآمال العريضة التي تنشرها أخبار مفرحة على ندرتها تتحدّث عن الوصول إلى عقار أو لقاح لعلاج الفيروس أمام أرقام الموت الكبيرة، إذ يسلب الفيروس المزيد من أرواح الناس من دون تمييز، فإنّ الإحباط يصيب الناس وتغدو الحياة صعبة والالتزام بالإجراءات عقاب لشعب يقاوم الجوع بالعمل اليومي أكثر مما هو إجراء قسري فرضته ظروف قيل للناس إنّها ستنتهي في غضون شهر أو شهرين.
لشهرين متواليين أمضى رزاق الصياح حياته في غرفة صغيرة بمنزله من دون أن يظهر انزعاجه وهو الذي عاش ستة عقود ونصف العقد من حياته بين الناس وعمل في مرائب النقل الخاص وسط ضجيج سائقي المركبات وطابع حياتهم المميّز بالكثير من التلقائية، لكنّ استمرار الوضع دون أن يلمح بارقة أمل تعيد الأمور إلى نصابها، دفعه لكسر العزلة بحذر واستعاد بعض تحركاته ولقاءاته بمحيطه واكتفى بالتّقيُّد بجزء من إجراءات الوقاية، لكنّ الرجل صدم؛ فالقليل من الناس ممن يلتقيهم يمنحون هذه الإجراءات بالاً على الرغم من أنّ معدل الإصابات لم ينخفض.
تقاليد أقوى من الخوف
العراقيون شعب اجتماعي لا طعم لحياتهم إنْ لم يتشاركوا بها مع من حولهم، لهذا فإنّ الحجر يمثّل سجنا بالنسبة إلى الكثير منهم، وفي الريف واصل السكّان هناك حياتهم دون أنْ يغيّروا من نمط حياتهم اليومية وتقاليدهم، فهم يتصافحون ويُقبِّلون بعضهم ويواصلون لقاءاتهم ويجتمعون على مأدبة طعام واحدة ولا تشعرهم بوجود الفيروس الا إجراءات عزلهم عن المدن القريبة منهم.
وثمة تصورات أنّ الناس لن تعود إلى الوراء وأن الحكومة وأجهزتها المختلفة ستواجه صعوبات في فرض سلطة القانون على مجتمع لا يحمل وعياً يعتد به بالقانون.
الوعي المجتمعي
ودافعت وزارة الداخلية عن الاتهامات التي طالت الأجهزة الأمنية ووصفتها بالتراخي، لا سيما بعد تحفيف إجراءات الحظر، إذ غصّتْ شوارع بغداد بالسيارات، وتدافع الناس في الأسواق وعادت المحال التي لم يرفع عنها الحظر لممارسة عملها بشكل طبيعي وبدا إعلان رفع الحظر وكأنّه إعلان رسمي عن نهاية فيروس كورونا في العراق.
ويقول المتحدث باسم وزارة الداخلية العميد خالد المحنا: “إنّ فرض احترام الإجراءات الصحية لن يحصل بالقوّة وحدها، وإنّ جميع الدول تعتمد على الوعي المجتمعي للالتزام بإجراءات الحظر الصحي”.
وخلال الأيام الأولى ضرب المواطنون في اثنين من كبريات المدن العراقية إجراءات الحظر عرض الحائط، وأقام أحدهم مجلس عزاء تسبّب بإصابة نحو مئة شخص، بينما أقام الآخر بمنطقة الطوبجي حفلاً لعيد ميلاد تسبّب بإصابة عدد من المدعوين لهذا الحفل.
وشكا وزير الصحة السابق صادق جعفر مراراً من عدم تعاون الأجهزة المعنية بتطبيق خطط مواجهة الفيروس، ومع هذا فإنّ هناك محال ومولات وشركات خاصّة طبّقت إجراءات السلامة بشكل رائع يعبّر عن وعي كبير؛ هو ما تحتاجه الدول في المرحلة التي يطلق عليها مرحلة التعايش مع المرض.
تحتاج هذه الإجراءات إلى تعاضد الجهود الصحية والأمنية والإعلامية أكثر من غيرها، لكنّ وعي المواطن يظل الركيزة الأولى التي يعتمد عليها في الخطّة الجديدة لمواجهة الفيروس.