كرسيٌّ على رصيفِ “رضا علوان”

1٬962

عواد ناصر/

تأتي بقهوتك من ذاك البائع الشاب، في مقهى “رضا علوان” ثم تختار طاولة على رصيف المقهى.
لكلٍّ من الكرسي والطاولة والرصيف والمقهى تاريخه الشخصي.

الكرسي الذي جرب انتظارات عدة، شهدها منذ ولادته ونشأته، ثمة زبائن من الجنسين، ومن مختلف الأعمار، امتزجت عنده تشوفاتهم بيؤوسهم، مثله، هم الذين انتظروا واشتاقوا ويئسوا وحلموا وخافوا، وهو الذي شهد هذا كله، لصق جلده، واستسلم لجمود الطبيعة في البلاستيك المعادي، وجَرّب، كزبون ثابت، معنى أن يكون الضجر رديفاً للكدح البشري وغموض اليوم التالي.

الطاولة، بمساحة المستطيل المضروبة في القلب، تتحرك تحت الأيدي التي تضرب يداً بيد، ثم تحمل استكانات الشاي بتمهل مشوب بتوتر ظاهر، فالأيدي هي صورة القلوب المتوترة.

يدخل ناس ويخرج ناس. بينهم أصدقاء لم أرهم منذ عقود. لكننا نتحاور حول آخر الطوائف وآخر النكات وآخر العقائد. كأن الماضي مرَّ، حسب، ولم يترك أي ندبة في الذاكرة ولا علامة على الأيدي.
توقعت أن يسألني أصدقائي عما حلَّ بي في منفاي الطويل، وهم، أيضاً، توقعوا أن أسألهم عما حل بهم في بقائهم القاسي.

لم يسأل أحدٌ أحداً، كأننا متواطئون على ما مضى لأننا نعرفه، حلماً حلماً وشظيةً شظيةً وسجناً سجناً ومنفى منفى.
ثمة صمت يعبر الطاولة وحزن في العيون وأصابع تتبادل الألم الذي لم يعبر عنه.

رصيف المقهى مفتوح على المحبة والسيارة المفخخة في آن.

لا يعلم أي منا متى تتبدى المحبة ومتى تتفجر المفخخة، لكن ثمة طمأنينة مع وقف التنفيذ.
هذه هي بغداد، والكرادة تحديداً، مكانٌ لكل ما هو متوقع.

الوجوه تعبر الرصيف ونحن نتحلق حول الطاولات والشارع في منتهى يومه العادي، بأحزانه وأحزابه ونحن الجالسين نتداول قهوتنا بالبندق، ونثرثر حول قصيدة النثر وما بعد الحداثة وآخر بيان عن ملف توني بلير.

الكرادة تنطلق من أحلام أهلها والعابرين عبرها باتجاهات متعاكسة، عراقيون، بلا ضحك، ولا موسيقى ولا غزل.

رصيف “رضا علوان” مقهى مفتوحة على بغداد كلها، لكنها لا تحمل أي أمل بأن تكون بغداد كلها.

العابرون، عبر رصيف مقهى علوان، كائنات تختلط في عيونها مراثي القتلى واعتبارات الشهداء والفرق بين الاثنين حسب إعلام السياسة والسياسيين.

أرى من حيث أجلس، على طاولة في رصيف “رضا علوان” الجانب المقابل من الشارع، حيث بائع الخضار وزبائنه، منهمكون بالتسوق والوجوه تخسر ملامحها الطبيعية.

قريباً منا، نحن المقيمين، في الغربة (يسموننا جماعة الخارج) نرى إلى العراق وطننا حسب البديهة التي تعني مسقط الرأس، زائداً ما يمثل انتماءً لحليب الأم، وإن كان مشوباً بالالتباس في وطن لا يمكن رسمه بخرائط مسبقة.

مقهى “رضا علوان” عاصمة الكرادة، والكرادة عاصمة بغداد، وبغداد عاصمة الجميع.

متى نتبادل خبرات المنفى والوطن يا أصدقائي الميامين؟

متى نسترخي، لبعض الوقت، لنعرف بعضنا بشكل أكثر هدوءاً؟

متى تستعيد الأيدي نبضها فوق طاولة تحيط بها كراسٍ تجمع نساء ورجالاً يتحاورون حول الشعر والرواية والسينما وآخر مستحضرات كريستيان ديور؟

متى؟

الكرادة، اختصار الأمل واليأس، مثل مدينة العمارة أو بلد أو أربيل أو تكريت، أو الفلوجة.

لأن الكرادة عاصمة بغداد، فهي عاصمة الجميع كي لا تبدو شارعاً للتسوق ورمزاً لفكرة طارئة، بل هي نافذة رأيت عبرها العراق في لحظة التباس الحوار مع الذات والآخر.

مقهى “رضا علوان” هي أنا مفعم بأحزان من يمرون وأنا ألقي التحية على العابرين عبر الطاولة المحاطة بكراسٍ صامتة بحكم العادة.