مقبرة الإنكليز في العمارة.. شاهدٌ على تاريخ مدينة قاومت الاستعمار

1٬049

عبدالحسين بريسم وشذى السوداني /

تعد مقبرة الجنود الإنكليز في محافظة ميسان شاهداً على مقاومة أهالي العمارة للمحتلَّ الإنكليزي. تضم المقبرة أكثر من 4500 جثماناً لقتلى الجيش البريطاني، فضلاً عن أنها تحتل مساحة جغرافية مميزة في مركز المدينة، إذ تطل على نهر دجلة وتجاور مدينه الألعاب المركزية جنوباً ومعبد الصابئة المندائيين شرقاً، ويجاورها من الغرب سوق العمارة المسكوف.
الدكتور محمد حسين زبون الساعدي، أستاذ التاريخ في كلية التربية بجامعة ميسان، حدثنا قائلاً:
إن مقبرة الإنكليز شاهد حي على ما مرت به المدينة من أحداث أثناء الحرب العالمية الأولى والسنوات التي تلتها حتى عام ١٩٢٠، وقد تم اختيار هذا الموقع لاعتبارات مدروسة من الجانب البريطاني، إذ تقع على أحد فروع نهر دجلة، كما أن موقعها الستراتيجي يضمن نقل جثث جنود الاحتلال البريطاني في الوقت المناسب.
جنسيات مختلفة
يضيف د. زبون: تحتوي هذه المقبرة على ٤٥٤٤ جثماناً تابعة كلها للجيش الملكي البريطاني ومن جنسيات مختلفة (بريطانية وهندية وبورمية وجنسيات متفرقة من جميع البلدان التي وقعت تحت الاحتلال البريطاني)، فمن المعروف أن البريطانيين كانوا يسخرون الموارد البشرية لصالح الجهد الحربي البريطاني. أما ديانات من دفنوا في هذه المقبرة فهي (المسيحية والهندوسية والبوذية والسيخية، وحتى من المسلمين الهنود)، ويتجلى ذلك من خلال النُصُب والأيقونات التي وضعت على كل مجموعة من القبور، التي تُظهر أنها تابعة لديانة معينة، فالمسيحيون مثلاً نرى نُصب الصلبان على قبورهم، أما المسلمون فقد شُيّدت لهم قبّة صغيرة طرازها مستمد من الفن والتراث الإسلامي، وكُتب على مقبرة المسلمين (المحمديون) وهو أمر ناتج عن التصور الاستعماري البريطاني عن الديانة الإسلامية، فهم بهذه التسمية قد رفضوا ضمناً الاعتراف بالإسلام ديناً سماوياً.
وأكد على تعرض هذه المقبرة للأهمال والتهديم فهي تعد رمزاً للتدخل الأجنبي في مدينة العمارة. كما أنها تعد شاهداً على مقاومة أهل مدينة العمارة للاحتلال البريطاني ورفضهم أي تدخل أجنبي للمدينة.
دليل مقاومة
من جانب آخر، قال الباحث في تاريخ ميسان جمعة الأزرقي: إن مقبرة الإنكليز في مدينة العمارة من أقدم المقابر التي شيدها البريطانيون في العراق عندما احتلوا المدينة عام 1914م وتضم رفات أكثر من4500 جندي إنكليزي وهندي ومن جنسيات متعددة أخرى كانوا يخدمون تحت التاج البريطاني.
كانت مقبرة الإنكليز في العمارة تسر الناظرين بحدائقها وببناء قبورها وسياجها الجميل، حتى أن كثيراً من عائلات الجنود المدفونين في المقبرة كانوا يزورونها في السبعينيات من القرن الماضي قبل أن تصبح أرضاً جرداء جراء الإهمال الحكومي.
في ختام حديثه دعا الأزرقي إلى: ضرورة الاهتمام بالمقبرة لأنها معلم تاريخي وشاهد على بطولات العراقيين ونضالهم ضد المستعمرين والمحتلين والغزاة.
جزء من تاريخ المدينة
الكاتب والباحث جمعة المالكي حدثنا عن المقبرة بالقول: المقبرة البريطانية، أو كما يسميها العماريون “مقبرة الإنكليز” في ميسان تعد معلماً تاريخياً سياسياً، فهي جزء من تاريخ مدينة العمارة، لكن المقبرة الآن مهملة وقُضمت أجزاء من أراضيها أضيفت إلى متنزه ميسان، وتتجمع فيها أكوام من النفايات وتتعرض للتلف والتلوث، نأمل أن يتم تطويقها بسياج محكم، تكون فيه بوابة، لتكون مَعلماً يزوره طلاب الجامعات والمدارس ليتعرفوا على تاريخ مدينتهم والأسباب التي دفعت القوات البريطانية إلى اتخاذها مقبرة لدفن جنودهم القتلى.
دلالات للوعي الجمعي
في حين قال أ.د محمد كريم الساعدي، أستاذ فلسفة علم الجمال في جامعه ميسان: للتاريخ أثر في حياة الشعوب، ولاسيما التي مرت باحتلالات على يد القوى الاستعمارية التي مرت بالمنطقة العربية بعد أن تم تقسيم المنطقة على وفق اتفاقية سايكس بيكو، وكان العراق من نصيب التاج البريطاني الذي حكم العديد من الشعوب في المنطقتين العربية والآسيوية، لذا فقد دخلت بريطانيا إلى العراق بعد أن اندحر الاحتلال العثماني، وميسان كانت من بين المدن التي تعرضت للاحتلال على يد البريطانيين، لكن هذا الاحتلال لم يمر دون ثمن فقد حصلت معارك في مدينة العمارة قتل على إثرها عدد غير قليل من جنود الجيش البريطاني، وهذه المقبرة في العمارة خير دليل على مقاومة المحتل، وقد أصبحت المقبرة معلماً حضارياً يعتز به أهالي المحافظة لأنه دليل على وعيهم وحبهم لوطنهم وهم يواجهون المحتل لهذه الأرض المعطاء.
أضاف الدكتور الساعدي: للمكان بعد فلسفي لأنه شاهد على مرتكز معرفي لحقبة ذات دلالات في الوعي الجمعي، لذا فإن هذا المكان الذي يقع في قلب المدينة وبالقرب من ضفاف أنهارها المتفرعة قد يكشف عن تعطش الجيوش العابرة لاجتياح هذه الأرض، لكنها لم تستطع البقاء فيها والثبات، فما زالت الأنهار تلفظ أثر كل غريب عن المدينة.. فالمقبرة بطرازها الغربي وسورها ذي الدلالات التاريخية وأسماء قتلاها قد استقرت في ذاكرة المكان شاهداً على تاريخ مدينة لم تخضع.