بساتين النخيل.. ثروتنا المهملة
علي شايع /
يروي أحد من عاصروا الثائر المصري أحمد عرابي في المذكرات أنه عاد من منفاه في سريلانكا بعد عشرين عاماً، مُحضّراً معه مجموعة أشجار وثمار من فاكهة المانجو إلى مصر لأول مرة سنة 1903. قيل كان الزعيم وقتها يفكر بثروة مستقبلية لأرض الكنانة الخصيبة، وها هي تصبح الآن بالفعل من بين الدول المصدّرة لهذه الفاكهة النادرة.
ثروة غير مستغلة
ماذا لو أن حالماً عراقياً قدم مشروع ثروة هائلة، لا تحتاج انتظار سنين (عرابي) بل أقل من عقد واحد من السنوات؟. ماذا لو استمعت الحكومة ومن يعنيهم الأمر الى أفكار مختصين ومهتمين بهذا الشأن، من الممكن أن يقدموا أفكاراً ومقترحات مفيدة؟. فثمة من يتحدث عن قدرة العراق على استزراع 150 مليون نخلة في محيط يمتد من حدود محافظة الأنبار غرب البلاد الى أقصى مدينة البصرة، وبما يدرّ على البلاد ثروة تقدر بأكثر من 12 مليار دولار، كحد أدنى وبقدرات تشغيلية لأكثر من نصف مليون من الأيدي العاملة والمهن الزراعية والتصنيعية الغذائية.
مزارع النخل الكثيفة تلك ستمكن من زراعة 6 ملايين شجرة فاكهة وحمضيات تحت ظلالها، وبما يوفر إنتاجاً فائضاً من الفاكهة، وتحسيناً بيئياً واسعاً عبر تلك المساحات الشاسعة من الخضرة.
أهميتها في التوازن البيئي
وهي بحسب رأي الخبراء من الممكن أن تقلل من ارتفاع مستوى درجات الحرارة. وترتقي بالتوازن البيئي، وتسهم بزيادة معدلات الأوكسجين في الأجواء، وزيادة خصوبة التربة بتحلل المواد العضوية الناتجة. ولن تؤثر تلك الغابات النخلية في معدلات استنزاف وهدر المياه، بل ستوفر من المهدور المائي، ولن تستهلك إلا بما يعادل مستوى شهر واحد من مياه نهر الفرات طيلة السنة، وهي نسبة لا تؤثر في الوضع الزراعي في حال عرض الأمر على لجان خبراء من الوزارات المعنية، يمكنهم تحديد أفضل الأماكن المرشحة للزراعة وبما لا يضيع مناسيب المياه.
أشرف الشجر
بساتين النخيل تلك من الممكن أن تسجّل ضمن التراث العالمي فقد أثمرت جهود الطرف العراقي في مؤتمرات عديدة بوصفه الخبير والمختص بملف النخلة، بطرح الفكرة التي تبنتها منظمة اليونسكو العام الماضي، بإدراج النخلة ضمن التراث العالمي للإنسانية، إذ سيتم التعريف بها في جميع المحافل الثقافية لبيان دورها في تشكيل الحضارة؛ مذ استخدمت لبناء معبد إله القمر في أور ما بين النهرين، وحتى هذا اليوم. هذه المكانة التراثية يمكن أن توفرها أماكن سياحية في محيط كل تلك المساحات المزروعة، تستقطب ملايين السياح لورود ماء الفرات وماء دجلة خير الماء، وزيارة أشرف الشجر النخيل.
نخلة عبد الرحمن الداخل
ولعلّ من الغريب أن يسبق بلد مثل إسبانيا العراق في دخول مدنه على لائحة التراث العالمي لوفرة محميات النخيل فيه، بلد لم تكن فيه سوى شجرة نخيل واحدة أنبتها مؤسس الدولة القوية في الأندلس عبد الرحمن الداخل، ووقف عندها منتحباً يقلب وجهه في الأفق غريباً منشداً:
تبدَّت لنا وسط الرُّصافةِ نخلةٌ تناءت بأرض الغربِ عن بلدِ النخلِ
فقلت شبيهي في التغرب والنوى وطول التنائي عن بنيَّ وعن أهلي
نشأتِ بأرض أنت فيها غريبة فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
لو أنها عقلت إذاً لبكت مـاء الفرات ومنبت النخل
بالطبع تلك النخلة الوحيدة، وغيرها في أماكن أخرى تكاثرن بالنوى والفسائل، وأسَّسن لمشروع عبر السنوات والتأريخ منتجاً ضياعاً ومزارع، أعقبتها حدائق وجنائن من نخيل صارت اسبانيا تباهي بها بلدان النخيل الأصلية، فهذا الأمير العاشق للنخل طور أنظمة محكمة للري يعمل بها إلى اليوم، كان من نتائجه زراعة غابات من نخيل، وصل كبر واحدة منا الى أربعة كيلومترات مربعة بمدينة (Elche) الإسبانية، الأمر الذي جعل منظمة اليونسكو تدخلها على لائحة التراث العالمي منذ سنة 2000م.
جذور عراقية
ليس من الخيال أن يصل نخيل العراق مهاجراً الى الولايات المتحدة الأمريكية ويصبح ثروة وطنية للتصدير في تلك البلاد، عبر مزارعين إسبان وصلوا مع التمور في منتصف القرن التاسع عشر. تلك الثمار كانت من أرض الأندلس، وهي في الأصل من نخيل عراقي تمتد جذور أصالته في أرض الرافدين الى أكثر من 6 آلاف سنة.
فنخيل التمر أول شجر خلَّدته الآثار وبقي ماثلاً في المنحوتات القديمة، كرمز للشجرة المباركة المذكورة في قصائد الأولين بمهابة وإجلال، وتمرّ على ذكرها كتب الشرائع السماوية بخصوصية وتشريف فريد.
تسابقَ سكان الأرض الجديدة حال معرفتهم إمكانية زراعة تلك الثمار على محاولات تحسين السلالات ودراسة ما يتيح وفرة المنتج واستزراع الأفضل منه. كسبوا الخبرات فأقاموا مراكز البحوث المعنيّة من الباحثين المختصين بشؤون زراعة النخيل ليثبتوا بالتجربة سرّ الاهتمام الأمريكي بهذا النوع من الثروات، بشكل جعل تلك البلاد ترتقي فيها بسرعة فائقة لتصبح من أهم دول الإنتاج المنافسة.
ترى لِمَ نهمل مثل هذه الثروة العملاقة في بلادنا، ونحن نتوفر على أهم أسباب الإنتاج الوفير وبأصناف لم تغادر العراق بعد ويمكن أن تشكلّ مستقبلاً ثروة استثمارية يعتّد بها؟.
ألا تستحق النخلة مؤتمراً علمياً جاداً يبحث في كل هذه التفاصيل؟ّ!