السياقة بين السلامة والندامة.. من فنٍّ وذوق وأخلاق إلى ألعاب إلكترونية!
رجاء الشجيري- تصوير: بلال الحسناوي /
السياقة.. هل ما زالت فناً وذوقاً عالياً وأخلاقاً في تطبيق قوانين المرور والتعامل مع الطريق والناس في شوارع أصبحت فيها السياقة أقرب للألعاب الإلكترونية منها إلى الواقع؟ وكأن أرواح الناس ومصائرهم وهم آمنون في الطريق مجرد وهم وافتراض ضمن لعبة! ما الذي أوصل سياقة السيارات وحركة المرور إلى هذه الحالة؟
وهل الأغلبية هم ممن يلتزمون بقوانين المرور أم العكس ممن لا يطبقونها، بل ويتباهون بذلك؟ أسئلة نطرحها ضمن تجربة شخصية مع رحلة تعلّم السياقة وربطها بوضع عام فيه الكثير عبر الآتي:
تاريخ تأسيس مديرية المرور
بداية، دفعني الفضول لمعرفة كيف هي بدايات تأسيس هذه المديرية المهمة في حياتنا. وفي بحثي هنا وهناك، عرفت أن البداية كانت عام ١٩٢١، حين تم تأسيس أول قوة للشرطة في العراق، خصص ستة أفراد فقط من بينهم لتنظيم السير في عدد من شوارع بغداد. وأصدرت تشريعات قانونية للحد من المخالفات وفرض العقوبات، فجاء بيان السيارات الصادر عام ١٩٢٠، وهو جزء من بيان البوليس رقم (٧٢)، وكان أقدم تشريع يختص بتنظيم حركة السير والمرور في العراق. وفي ١٩٢٧ عين أول مفوض مسؤول عن تنظيم حركة المرور، وعام ١٩٣٥ صدر قانون تنظيم وسائط النقل رقم (٥٠) وفيه أحكام تفصيلية.
عام ١٩٤٧ تأسست (مديرية شرطة النقليات والمرور) واتسعت تشكيلاتها لتصبح مديرية شرطة النقليات والمرور في الرصافة وأخرى في الكرخ وأخرى للطرق الخارجية، ومكتب لتسجيل المركبات. فيما صدر عام ١٩٧١ قانون المرور رقم (٤٨) ليحل محل قانون وسائط النقل رقم (50) لسنة ١٩٣٥، وفي عام ١٩٧٤ استحدثت مديرية عامة (مديرية المرور العامة) التي أصبح ارتباطها بوزارة الداخلية بدلاً من مديرية شرطة النقليات والمرور.
وعن أول شرطي مرور في تاريخ العراق فقد كان (عبود جابر حسين) الذي عُين في قاطع مرور البلاط الملكي عام ١٩٢٩. وفي الثلاثينيات بدأ امتحان سائقي السيارات لمنحهم الإجازات، وكان الاختبار خلف جامع السراي في الميدان.
المعلومة ومخالفتها
بداية رحلتنا مع تعلّم السياقة كانت باتباع إرشادات وقوانين عامة للسلامة المرورية، وما إن تتوالى المعلومات والقوانين التي يجيب الالتزام بها، حتى أرى عكسها تماماً مما يطبق حولي، الجهة اليمنى مثلاً التي طالما أوصيتُ بأن أكون ضمنها في بدايتي للأمان، وإذا بي أجد عشوائية في طريقة ركن السيارات بشكل طولي مثلاً أو أن أفاجأ بسرعة البرق بسيارة أمامي تقف لتركن، أو أن يعطيني السائق الذي أمامي إشارة بأنه سيستدير إلى اليسار، وإذا به يلتفّ لليمين!! أتقدم لأجد سباقات من كل صوب للدراجات النارية التي تقفز فجأة هنا وهناك.. أو مشاهدة استعراض سيارة بسرعتها أمام الجميع ليجتازني ويحقق لذاته نصراً نفسياً قد يكلّف أرواح أناس لا ذنب لهم.. أما الهواتف النقّالة فحدِّث ولا حرج، بعضهم يندمج وكأنه يقود دراجة هوائية في حيِّهم وليس في طريق عام ليقف مثلا فجأة في منتصف الطريق دون إنذار ليتذكر أن عليه الرجوع وأنه قد اختار الطريق الخطأ! وغيرها وغيرها من السلوكيات المرورية الخاطئة التي أفرزت استهتاراً مرورياً. ولكن لا يمكن تجاهل أيضاً وجود أناس ظلوا ملتزمين ومحافظين على نظام القوانين المرورية لشعورهم العالي بالمسؤولية تجاه أنفسهم والآخرين، بل وحرصهم على غرسها في أولادهم وتطبيقها دوماً.
حوادث
وكان عضو المفوضية حقوق الإنسان (فاضل الغراوي) قد أكد في بيان “أن المفوضية أشرت ارتفاعاً ملحوظاً في عدد حوادث الطرق بسبب انعدام متطلبات السلامة في الطرق وفي السيارات المستخدمة من قبل المواطنين وقِدم الطرق.” كما طالب مديرية المرور العامة بشكل عاجل “بتطبيق متطلبات السلامة في السيارات ومطابقة معايير السلامة في السيارات المستوردة ومتابعة أعمار السائقين ووضع غرامات مالية عالية وعقوبات رادعة للحد من سرعة السياقة،” داعياً أمانة بغداد ووزارة الإسكان والتعمير في المحافظات كافة إلى “إعادة تأهيل الطرق وتأمين متطلبات السلامة فيها بما يحافظ على حياة المواطنين ويقلل الحوادث المرورية فيها.”
من أول مدرسة إلى دورات متلكئة
كانت مدرسة (البغدادي) التي أسسها المرحوم عبد الستار البغدادي عام 1961 هي أول مدرسة لتعليم قيادة المركبات، وكان قد أُرسل في دورة إلى أوروبا لدراسة الميكانيك حيث شاهد الأسلوب المتبع هناك في تعليم قيادة السيارات، وبدأ مشروعه لنقل هذه التجربة إلى العراق، لكنها كانت بشكل محدود في منطقة العلوية، وفي عام 1963 قام باستيراد نماذج متطورة من السيارات الخاصة بالتدريب على السياقة من إنكلترا.
أما اليوم، وأعني تحديداً الدورات المنتشرة لتعليم القيادة، فهي تجارية عشوائية أكثر منها جادّة وأمينة، ومع أن القانون استناداً لأحكام المادة (27) ينص على مقدار الغرامة البالغة (1000,000) مليون دينار عراقي لكل من مارس مهنة تعليم السياقة أو فتح مكتب تعليم مقابل شروط المتانة والأمان دون استحصال الموافقات الأصولية. لكن هل الغرامات هي الحل والرادع لجودة هذه الدورات؟
(ندى علي، متدربة، ٢٧ عاماً) عانت من هذه الدورات تقول: “كان حلمي أن أمتلك سيارة خاصة بي أذهب بها إلى عملي، وقد تحقق ذلك والحمد لله، ولانشغال والدي الذي اشتراها لي قررت دخول دورة لتعليم القيادة، الإعلان كان لعشرة أيام فقط فترة التعليم، بمبلغ ٢٠٠ ألف دينار، تشجعت رغم ذلك وقلت لا بأس سأكون ماهرة خلال هذه الفترة، إلا أنني فوجئت، فأولاً كان يفترض أن يستغرق التدريب ساعة يومياً خلال العشرة أيام، وإذا بها أقل بكثير من الساعة، واختزلت لخمسة أيام داخل أفرع المنطقة فقط، دون شارع سريع أو جسور أو خارج منطقتي لمسافات لأتعلم جيداً، وإذا بها ليومين فقط في شارع سريع لأقل من ساعة ثم أعود مباشرة ولا أستمر لمعرفة تفاصيل دقيقة قد أتعرض لها أثناء السياقة! أما “رَكن وصفّ السيارة” فكانت لنصف ساعة فقط في اليوم الأخير ودون تطبيق لتصبح الدورة ٨ أيام فقط، بعدها أخبرتني المدربة: أنت الآن جاهزة.. انطلقي واعتمدي على نفسك!”
مخالفات
توجهنا بأسئلتنا إلى الرائد (حيدر محمد)، مسؤول إعلام المرور العامة، بشأن المخالفات والحوادث في الشارع، ومن يتحمل المسؤولية؟ فأجابنا: الثقافة المرورية مسؤولية الجميع، وبث الوعي في الالتزام بالقوانين وتوجيهات السلامة لحفظ الأرواح والمصلحة العامة هي مهمة مشتركة بين مديرية المرور والمواطن والتزامه بها، إضافة إلى مسؤولية الأهل أيضاً في ضبطهم لأولادهم وعدم السماح لهم بقيادة مركبات دون السن القانونية. يضيف: يومياً تستوقفنا هذه المخالفات لمن هم دون سن الـ ١٨ عاماً فيحجزون هم ومركباتهم. شخصياً قبل أيام شاهدت على طريق سريع محمد القاسم مركبة حمل كبيرة (لوري) تتمايل بشدة وتكاد تتسبب بكارثة، فاستوقفتها وإذا بسائقها صبي بعمر ١٥ عاماً، في حين أن مركبات الحمل تحديداً يجب أن يكون العمر القانوني لقيادتها ٢٥ سنة. كان تبريره أن والده مريض وهو يعمل بدلاً عنه، وكان لابد من اتخاذ الإجراءات القانونية بحقه. ويؤكد الرائد أن المسؤولية واللوم في هذه القضية تقع على الأهل. وعن الدراجات النارية، يقول محمد: حسب قانون (٨) لسنة ٢٠١٩ فإن العمر المسموح به لقيادتها ١٦ سنة أما سياقة الأحداث فتعتبر مخالفة قانونية، لكن رغم العقوبات فإنهم موجودون في الشوارع!
١٥ عاماً مع ابتهاج الياور
وفي سؤالنا عن سبب عدم وجود برامج مرورية على شاشاتنا مثل برنامج ابتهاج الياور الذي استمر ١٥ سنة، وبمتابعة منقطعة النظير من المشاهدين، يجيب الرائد حيدر: التكنلوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي لها تأثيرها، سابقاً كانت هناك قناة تلفزيونية واحدة او اثنتان، وكان الناس متشوقين لمعرفة الأخبار والتوجيهات من خلالها.. أما الآن فإن غزو التكنلوجيا وكثرة القنوات ومواقع التواصل الاجتماعي جعل المواطن مشوشاً وهو يتلقى المعلومات من هنا وهناك، مع حرصنا الشديد في إعلام مديرية المرور العامة على إقامة ندوات وورش لبث الثقافة المرورية من خلال القنوات ومواقع التواصل الاجتماعي وبكل الوسائل لإيصال المعلومات وتحقيق السلامة للجميع..
النساء والقيادة
كانت أول امرأة عراقية قادت سيارة ومُنحت إجازة سوق هي السيدة (أمينة على صائب الرحال)، التي حصلت عليها عام 1936 في الوقت الذي كان فيه عدد السيارات في دول الخليج والمغرب العربي محدوداً. واليوم تضج شوارعنا بالسائقات في كل مكان، مع تذمر هنا وهناك من السائقين، منهم من يتذمر من خوفها وإرباكها المستمر في القيادة، ومنهم من تدفعه روح التنمر والإقصاء لمجرد ردعها عن السياقة، ومنهم من يحمله دافع الشفقة عليها ليترك لها مجالاً كبيراً لأنها (امرأة التي تسوق).
المدرب (ماهر فيصل) حدثنا عن ذلك بقوله: قبل البدء بتدريب أية متدربة أخبرها بما ستتعرض له من معاكسات ومضايقات لمجرد أنها امرأة تقود، كأن يتقدمون على سيارتها لإخافتها أو يتذمرون من أدائها فيضايقونها، لذلك أخبر المتدربة أن عليها أن تتحلى بالشجاعة والتحدي وإهمال المشاكسين وإثبات العكس تماماً بجودة قيادتها والتزامها في الطريق وبقوانين المرور.