أصوات الكادحين تعيد الحياة لساحة الطيران

2٬188

إياد عطية – تصوير: بلال الحسناوي /

عادت أصوات الكادحين في ساحة الطيران تتعالى، لتعلن أن الإرهاب لن يوقف حياة العراقيين، فبعد يومين من المجزرة الدامية التي ارتقت فيها أرواح ما لا يقل عن 32 شهيدا إلى السماء من دون ذنب؛ سوى أنَّهم عراقيون كادحون لا يعرفون حتى لماذا فجّر هذان الإرهابيان جسديهما المحمّلين بشظايا الموت بهم.
في الساحة التي كانت هدفاً لأكثر من عملية انتحارية، ثمة دماء ما زالت تغطي سقف البسطيات، وحيث يتكئ حيدر بائع الهواتف المستخدمة على عصا بعد أن ضمّد جرحه سريعا في المستشفى وعاد لعمله فهناك أفواه تنتظر لقمة حلال يجنيها من بسطيته المتواضعة.
أن ينادي البائعة هنا في هذه الساحة على نوع بضائعهم وسعرها؛ فتلك بعض طقوس هذه السوق، تتساءل وأنت ترى العديد من أصحاب البسطيات يعضون على جراحهم ويمارسون يومياتهم، وفي عيونهم تبرق لمسة الحزن أعمق من قدرتهم على إخفائها، وهم الذين عاشوا فصلا رهيبا من وحشية متناهية حينما تناثرت جثث أصدقائهم وتحوّلت إلى أشلاء.
ما إن تقترب منهم حتى ينفجروا بالبكاء وإذ يستذكرون رفاقهم الذين فاضت إلى بارئها تشكو اليه وحشية مخلوقاته الشريرة التي لم تجد غير تلك النفوس التي أنهكها الفقر فلجأت إلى ساحة الكادحين، لكنَّ الإرهاب مدّ يده مع الفقر ليسلب أرواحهم هذه المرة.
على أعتاب سوق البالة ثمة دماء وشموع وأرواح غادرت، هنا في ساحة الكادحين شكّل الفقراء فسيفساء آخر لعراق غير معني بالصراعات السياسية، لا يهتم لأخبار الصحف والفضائيات، ولا يعبأ بخلافات البرلمان، قادماً من أحياء الجوع والتهميش من الشمال والجنوب والوسط، وحّدتهم المعاناة فكانت أحاديثهم الصباحية وتعليقاتهم الساخرة من أنفسهم وأيامهم تمدّهم بعزيمة على مواجهة المعاناة، لم يخطر ببالهم أنّ هناك من يتربص بهم ليغتال تلك البسمة الذابلة المغمَّسة بدموع الحرمان.
يقول حسن وهو يتصنّع رباطة الجأش ويجاهد لحبس دموعه: “أريد أن أفهم لماذا يفجّر الانتحاريون أنفسهم هنا بين الفقراء، لا أصدّق كيف بقيت حيا وأنا أشهد انفجارين في هذه الساحة ولمرتين حملت رؤوس شباب قطعت، وأجساد شيوخ تمزّقت أشلاؤها, ونعود يا لقلوبنا؛ نعود ونواصل الحياة وكأن الذين ماتوا لم يشاركونا يوما لقمة خبز وما اكتوت رؤوسهم بشمس الصيف، ويستدرك؛ ولكن ماذا نفعل فهناك من ينتظر أن نحمل اليه لقمة وفرحة.
نحن هنا ونعرف أنَّه في أي لحظة ممكن أن يأتي انتحاري يفجّر نفسه هنا مرة أخرى، نعرف أن خبزتنا قد يكون ثمنها أرواحنا، دائما يفجّر الارهابيون الفقراءَ لأنَّه لا أحد يحميهم.
لسنا انتحاريين، لسنا أبطالا كما قد تتوهمون لكنَّ الحياة لن تتوقف، لا بدّ أن نواصل الحياة بكل قسوتها ومرارتها، لماذا أنتم تتحدّثون معنا، إنّكم قد تكونون أناساً طيبين، لكن نحن نفهم أنَّ الإعلام هو سبب أيضا لقتلنا، تأتون هنا لماذا؟ كي تنقلون مأساتنا وماذا بعدها، كم فضائية صورت ونقلت صرختنا، من دون أن يتغيّر شيء، لقد اعتدنا أن نضمّد جراحنا ونواصل المسيرة.
ويحاول أبو ناصر تنظيف واجهة محله الذي لم يسلم من تدمير الانفجار، يغسل الباب ولكن لا يستطيع أن يغسل ذكرى تلك الفاجعة، ولا تلك المرأة التي كانت تبتاع الملابس المستعملة حين رماها العصف جثة لفظت أنفاسها هنا بين يدي أبو ناصر.
يصرخ الرجل: “كم هو خنزير هذا الإرهابي الذي لم يفرّق بين النساء والرجال والأطفال، ماذا سيقول لأطفال هذه المسكينة لو سألوه لماذا تقتل أمنّا؟.
يقول ماجد: “عدنا لكن شريط الموت يدور في رؤوسنا، حتى في نومنا، البارحة استيقظت فزعا وأنا أسمع صراخ الناس وهم يحاولون الفرار من الموت، وما زال صدى صوت امرأة منهارة من هول المصيبة تنادي لإنقاذ طفلها، دون أن تعلم أن الطفل بخير وأن الشظايا أصابته إصابات بالغة، تنادي طفلها وهي بين الموت والحياة.
لكن الا ترى لقد عدنا، عدنا إلى الساحة، عدنا مرة أخرى ونحن نحلم أن يعيش أطفالنا حياة آمنة وأن لا يتوسّدوا مثلنا أرصفة الفقر، فلعلّ أيامهم أجمل، نحلم بأيام أفضل لأطفالنا، أما نحن فنواجه العوز والقتلة والإرهابيين كل مرّة، و”يا لها من لقمة” حين ينازعنا عليها انتحاري؛ متوحش ومجنون.
لن ينسى الناجون ذلك اليوم الأسود ولا صور وأسماء رفاقهم، ومن المؤكد أنّ تلك الفاجعة ستظل راسخة في ذاكرتهم، لكنّهم مصرون على مواصلة الحياة بكل قسوتها، ومتمسكون بحلم أن بلادهم العظيمة لن تتخلى عنهم وإن أضاعوا عمرهم على أرصفة الفقر، فلعل أبناءهم يعيشون أياما أجمل.
الجريمة التي لقيت إدانة واسعة من المجتمع الدولي، أعادت ذاكرة العراقيين إلى سنوات الموت المجاني، لكن العراقيين صقلت نفوسهم تلك الأيام والحوادث التي حفرت قسوتها في ذاكرتهم، علمتهم أن لا يسلّموا بلدهم ومستقبلهم لصناع الموت، لأنَّهم شعب جدير بحياة كريمة وآمنة لا يدنسها المجرمون.