استشهاد قصة حب
رجاء خضير /
ليل طويل يمرُ ثقيلاً تتستر وراءه هموم ومعاناة, لكن الأماني والدعوات لا تنقطع في نفوس يراودها الأمل. ومع أذان الفجر يرتفع صوت الدعاء ليوم نقضي فيه كلياً على الغرابيب السود التي تحاول أن تخطف الأمل والحب، ولكن هيهات، فمهما كبر الوجع فإن اليوم الذي نحلم به ليس بعيداً بعون الله وهمة الغيارى من العراقيين.
قضيتنا في هذا العدد تختلف، أحد أطرافها لن تتمكن المشتكية من إحالته سوى إلى محكمة الضمير، أما المجرم الأساسي، الانتحاري، الذي فجر نفسه في ساحة الطيران، فحسابه عند الله سبحانه الذي لا يقبل الظلم وقتل الأنفس البريئة، وعند قواتنا المسلحة البطلة بمختلف مسمياتها التي ثارت ومستمرة تثار للشهداء.
صاحبة القضية (ز..24 سنة، خريجة كلية الإدارة والاقتصاد-جامعة بغداد)، لم نذهب إليها، إنما هي التي جاءتنا إلى المجلة وقدمت نفسها بأنها من قراء المجلة التي اختارتها لعرض قضيتها، ربما أمهات أخريات يتعظن مما ارتكبته أمها معها.
كانت (ز..) تسمع من جيرانها ومن القاصي والداني في منطقتهم عن (ع..)، الشاب الطموح الخلوق، الذي أرغمته الظروف على ترك دراسته بعد أن تركهم والده (الأم وأربعة أولاد أكبرهم هو وكان عليه أن يعيلهم). تعرفت إليه صدفة عندما سارع إلى مساعدتها حين تعثرت في الشارع وكادت أن تسقط أرضاً، تلك المساعدة كانت شرارة لقصة حب كبيرة بدات وهي في الصف السادس الادبي، حاولت إقناعه بالعودة إلى مقاعد الدراسة، في حين تعهد لها بان نهاية قصتهما ستكون الزواج، وهي تعرف مسبقاً ان والدتها تحلم برجل إما ثري أو صاحب شهادة عليا يليق، كما كانت تقول، بمستوى عائلتها وجمالها
قالت (ز..) الجميلة، والحزن لايفارق نبرة صوتها ونظرة عينيها، إنه لم يقنع بالعودة إلى الدراسة لكنه وعدها بالعمل ليلاً ونهاراً كي يتمكن من ادخار المال لحين تخرجها والتقدم إلى خطبتها، علّه يقنع والدتها.
” كنتُ أقدر تضحيته وأتمنى له الخير كله, كان يكبرني بخمس سنوات, وحينما أكملتُ الإعدادية ودخلت الجامعة, خشي ان تاخذني منه مسالك الكلية وما يحدث فيها من قصص, لذا اقترح ان يتقدم لخطبتي من أهلي, وأكمل انا دراستي إلى حين تحسن وضعه المادي”، قالت (ز..) واضافت “وافقت على مقترحه, واعتقدتُ أن امي ستساعدني في الامر, ولاسيما انهم يسكنون منطقتنا ومشهود لهم بالسمعة الطيبة.”
زار (ع..) مع والدته وخالته بيت (ز..) لطلب يدها، وما إن عرفت والدتها سبب الزيارة اسمعتهم كلاماً قاسياً اضطرهم إلى المغادرة فوراً. لم تعرف (ز..) كيف تتصرف، “نظرتُ إلى والدي عسى ان يقف بجانبي أو يمنع امي من الكلام السيئ بحقهم، لكن والدي كان لا حول له ولا قوة امام جبروت امي.”
التقته بعد أيام وعاهدته بانها لن تكون إلا له، لكن في المقابل عليه أن يعمل كثيراً ليجمع ما يقدر عليه لتامين مستقبلهم، ولاسيما أن والدها لا يمانع زواجهما. واستمرت (ز..) في دراستها التي قررت أن تتفوق فيها لتضمن التعيين كمعيدة، واستمر (ع..) يعمل ليل نهار في مختلف المهن، وحين شعرت بان والدتها تراقبها وتتنصت على تلفونها، اتفقت معه على عدم اللقاء والاتصال وهي في البيت. “ولتقطع والدتي أملي، فاجاتني بانني أصبحت خطيبة لابن خالتي الثري جداً، الذي لم ينه حتى الدراسة المتوسطة”.. لكنها صبرت ولم تحاول أن تعاند والدتها وطالبتها بالتريث حتى تخرجها.
كان (ع..) يتصل بها خلال دوامها في الكلية ويطمئنها بان تحقيق هدفهما بات قريباً. وفي حفل التخرج، كان (ع..) حاضراً وجاء ابن خالتها وابلغ والدتها وحين عادت الى البيت رات والدها صامتاً بينما والدتها قررت بانها أصبحت مخظوبة رسمياً لابن خالتها والزواج خلال أشهر. بعد أيام اتصل (ع..) ليبشرها بالبدء بمشروعه الخاص صباحاً، وفي المساء سيعمل في مهنته الأخرى في أحد الأسواق الكبرى، وليلاً يعمل على دراجته البخارية بإيصال المواد إلى البيوت (ديلفري). وكان مشروعه الخاص بيع أدوات كهربايية (بالة) في الباب الشرقي..
“في يوم شتوي قارس البرد شعرنا في منطقتنا بهزة خفيفة, ولا أعرف لماذا انتابني الخوف والقلق على حبيبي، خفية اتصلتُ به, لكنه لم يجب, كررت الاتصال وكان هاتفه مغلقاً، ما اضطرني إلى الاتصال بوالدته التي لم تجب أيضاً.”
ومن الأخبار العاجلة، عرفت (ز..) بالتفجير الإرهابي الانتحاري في ساحة الطيران، ومساء اليوم نفسه، عرفت باستشهاد (ع..).. صرخت كالمجنونة وهرعت إلى بيت أهله “وأنا اصرخ أن ارتاحي يا أمي، فقد استشهد حبيبي الذي حرمتني منه.”
احتضنها والدها بعد رجوعها إلى البيت وهي منهارة وقال لها إنه الآن سعيد في الجنة.
“لقد أحببته كثيراً يا أبي وظلمتنا أمي كثيراً أيضاً، بسببها بحث عن فرصة عمل أخرى ليكسب رضاها ولم يمنحه الأرهابي المجرم فرصة، يا أبي ساعدني وكن معي، لن أتزوج أبداً.”
وأنهت (ز..) قصتها بدموعها وتمنت أن لا تقف أم أخرى أمام أحلام ابنتها المشروعة..