(وداعاً) في (هذه الليلة) كـه زال إبراهيم
شكر حاجم الصالحي /
نصان شعريان أضافا همّاً ثقيلاً على النفس وأنا اتمعن فيهما، وأجد أنَّهما امتلكا طاقة تدميرية في إدانة واقعٍ أنتجهما، وجعل من الشاعرة كه زال ابراهيم خدر قارئة بعين مبصرة ورؤية واعية لما يحيط بها من قتامة وسواد وانكسار لخصت من خلالهما معاناة قومها في مجابهة ضغوطات الحياة وتحدياتها في ظل ظروف القهر والظلم والامتهان.
فالشاعرة ابنة قلعة دزة المتاخمة لحدود الوطن الشرقية، التي شهدت حروب الأخوة وتداخل الخنادق وأنهار دماء الشهداء الذين تساقطوا عبر حقب طويلة من النضال والقتال وتدخل الأصابع الاجنبية الطامعة في الهيمنة على مقدرات الناس وتمزيق أراضيهم، فقد ولدت الشاعرة كه زال عام 1968 الذي شهد تحولاً دراماتيكياً في النظام السياسي وانتقلت إلى رحاب الأبدية عام 2018 وعبر خمسين سنة من حياتها القصيرة رأت من الأهوال والتحولات ما لم يره غيرها، فهي ابنة الجبل الممتلكة لصبر الطبيعة وصلابة جبالها الشم وضمن هذه الأجواء تفجّرت طاقتها الشعرية المذهلة، كان ذلك تحديداً في منتصف عام 1987، إذ كتبت أولى محاولاتها الشعرية التي لفتت الإنتباه لإمكاناتها التعبيرية المصاغة بحروفها الجميلة المستوعبة لكل تلك الفجائع التي أنجبتها تلك السنوات التي لونت الحياة العراقية بالدماء والدموع وفاضت ترحماً على شهداءٍ لم يكن لهم من ذنب سوى عراقيتهم وانتمائهم لهذه الأرض المخضبة بالمراثي والهموم، ويبدو لي أن الشاعرة كه زال كتبت هذين النصين ـــ وداعاً ـــ و ـــ هذه الليلة ـــ في زمن متقارب، فأجواء النصين توحي بهذه المرارة التي ترشح من خلال لغتها والتي تشير وتصرّح بما يكتنف حياتها من غموض ومصير مجهول. ففي ـــ هذه الليلة ــ التي ترجمها كريم علي نلتمس حجم الخيبة وفداحة الظلام والظلم التي أورثتها الحروب وخلفت اليتامى وجيش الأرامل ولافتات النعي السود، لنقرأ ونكتشف ذلك الواقع الذي تدينه كه زال ابراهيم وتطلق عليه اللعنة بلغة معبّرة، إذ تقول : هذه الليلة / ليلة مشؤومة لا يغمض لي جفن / كل شيء في هذا الزمن الملعون مختلف / الينابيع دون خرير وهدير / والطيور منكفئة على نفسها / دون غناء / مدينتي تشبه خربة / حين أسمع كل هذا الأنين والصراخ / من الخرابة الأبدية / هناك امرأة شهيد / لأجل طفليها / وكسرة خبز فقدت عفة سنينها …….. أية حياة هذه التي تصفها عين الشاعرة التي تجعلك تعيش لحظاتها المرعبة في خيالك رغم أنك لم تعشها على أرض الواقع لبعدك عن تفاصيلها، فينابيعها دون خرير وهدير وطيورها خرساء دون غناء / والمدينة بما فيها خربة والموت يركض في أزقتها، والأدهى من المرارة ما تأخذنا إليه الشاعرة إلى امرأة الشهيد التي باعت أعز ما تملك من أجل حياة طفليها وكسرة خبز مغموسة بعار الجسد المهان. واعتقد أن هذا النص كان صرخة مدوية أطلقتها كه زال ابراهيم لتستنهض ضمير العالم بالتضامن مع مأساة أهلها ودموع أيتامها وهزائم قراها وسواد أيامها، وبهذا النص وسواه من الأصوات الخيرة ابتدأ نور السلام والاستقرار يعود إلى ربوع الشاعرة وثلوج جبالها وأوراق أشجارها … ورغم كل ما جرى ظلت كه زال ترى الحياة بقتامتها ولكنّها قتامة من نوع إنساني يثير الألم والحزن والتحدي، فهي تقول في ــ وداعاً ــ ترجمة عدالت عبد الله ما يكشف عن خفايا النفس المضطربة ويفصح المسكوت عنه في تجربة حياتية محبطة: وداعاً أيّتها الأمطار الوردية من الروح يا أمواج المائية من بحر العيون يا شهور ربيع العمر وداعاً. فهي هنا تطلق صيحات الوداع بعد أن خسرت أجمل أيامها وعانت ما عانته من آلام الفقد وانتهاك النسغ الحياتي وصارت لا تجد ملاذاً آمناً لحياة تليق بها وبقومها، ولم تعد قادرة على صنع الجمال والتمسك بحريتها المحاصرة بالتابوات والنواهي الظلامية : يا حلم يا نفس يا حب كويستان توديعك كان تأففاً لم يكن في موسوعة فكري، كان نغماً حزيناً هل تذكر تلك الليالي تحت خيمة الرجال في حضن القيم والصخور قلنا لك انتَ لنا ونحن لكِ. ومع كل ما في الواقع من سوداوية وقتامة وانهيارات متلاحقة، فإنها / الشاعرة / لم تغادر طوع إرادتها بل أجبرتها ضغوطات الزمن القاسي على المغادرة، ولكنّها ظلت متشبثة به (انتَ لنا ونحن لك) وتلك أعلى قيم التضحية والشجاعة والإصرار على مجابهة الهزائم الثقيلة والسعي بكل بسالة لصنع الغد الوضاء بعيداً عن أصوات المدافع في حروب خاسرة لا طائل منها … إن الشاعرة كه زال ابراهيم خدر التي أصدرت ((21)) مجموعة شعرية باللغة الكردية أبرزها، قبل أن تحبني، شذرات العشق، توسلات قبلة ومترجمة إلى اللغات الفارسية / الالمانية / الروسية / اللاتينية، ولم يترجم لها العربية سوى مختارات تحت عنوان ــ عين العشق حضن المحبة ـــ عام 2003، ولولا هذه الترجمة الوحيدة النادرة لما أطلعنا على واحدة من أهم تجارب الشعر الكردي في العراق… عدا عن كون كه زال شاعرة تستحق أن يقرأها كل المهتمين بالشعر العراقي بلغاته المختلفة.