دخلت لائحة اليونسكو وبقي السكان خارجها أهوار العراق.. تراث عالمي.. وفقر محلي
أسماء عزيز /
عندما أضافت الأمم المتحدة أهوار العراق إلى لائحة التراث العالمي منتصف عام 2016 ساد اعتقاد بأن السنوات العجاف التي عانى فيها السكان هناك طوال ثلاثة عقود مرت بهم بدءاً من الثمانينيات مروراً بالحصار الاقتصادي في التسعينيات وانتهاء بعام 2003، ستكون مجرد ذكريات مريرة لن تتكرر، وأن حقبة حافلة بالخير ستحل ضيفاً دائماً لن يغادر الا وقد ملأ ربوعهم فرحاً وطمأنينة في بلد وهبه الله كل مقومات التقدم والازدهار، لكن واقع الحال لم يكن كذلك إذ ما كل ما يتمنى “الشعب” يدركه.
الطريق إلى الأهوار
توجهنا إلى نواحي الفهود والمنار “الحمّار” والجبايش عبر مسافة تجاوزت 500 كم انطلاقاً من بغداد عبر الطريق الدولي، وحالما لاحت لنا نسائم الربيع الممتزجة مع رائحة القصب والبردي المعطّر بمياه الأهوار، كانت أصوات مطربي الناصرية تتناهى إلى سمعنا؛ حضيري أبو عزيز وناصر حكيم وداخل حسن وحسين نعمة وكمال محمد وصباح السهل وستار جبار وغيرهم المئات من المبدعين؛ أدباء وشعراء وعلماء.
ومع كل التاريخ الحافل بالعطاء والثقافة والإبداع والتميّز إلا أن مستوى الخدمات في تلك المدن لا يسرّ الناظرين، بدءاً من الطريق الرئيس الذي يربط مركز المحافظة بقضاء الجبايش بالرغم من محاولة توسيعه ليكون بممرين، وانتهاء بالدور السكنية والبنى التحتية التي ما زالت دون المستوى المطلوب بكثير، أما من حيث الانسان فالحال يحتاج إلى أكثر من وقفة وحكاية، على الرغم من أن لغة الأجساد والحزن المرتسم على الوجوه ينبئان السائل بحقيقة الحياة هناك وفقر الحال الذي ترك معالم قسوته على البشر.
حياة الأهوار
المهندس الاستشاري والناشط البيئي جاسم الاسدي أوضح أن مساحة الأهوار في ذي قار تبلغ 4000 كم2، وترتفع إلى الضعف في سنوات الفيضان كما حصل في عام 1988، الا أن عمليات التجفيف المريع في التسعينيات من القرن الماضي وتناقص كميات المياه بشكل عام في دجلة والفرات، وفي الأنهار الآتية من الأراضي الإيرانية جنوب العراق كذلك، كل ذلك أثر كثيراً في مساحة الأهوار التي حاولت استعادت عافيتها بعد نيسان 2003.
ويؤكد الأسدي أن السكان المحليين كسروا السداد الترابية لمنافذ الأهوار كشط أبو لحية في هور أبو زرك الشمالي في مدينة الإصلاح، وأنهار آل بحر والبوشامة والمواجد في هور الحمّار الغربي في الجبايش وأبو سوباط وأبو نسلة وأبو جويلانة في الأهوار الوسطى.
ويشير إلى أنه في عام 2005 وضع مركز إنعاش الأهوار خطة لاستعادة 5700 كم2 من الأهوار، وكانت حصة الناصرية منها نحو 2600 كم2، في حين يبلغ عدد السكان 200 الف نسمة يتوزعون على القرى والمدن المحيطة، أما الذين يسكنون قلب الأهوار فيبلغ عددهم بضعة آلاف، يعتمدون في عيشهم على صيد الأسماك وتربية الجاموس وصناعة الحصران من القصب وبيع الحشائش علفاً للحيوانات.
الأسدي يكرّر حقيقة واضحة للعيان؛ ملخصها أنّ ساكني الأهوار لم تتغيّر حياتهم اقتصادياً حتى بعد انضمام مسطحاتهم المائية تلك إلى لائحة التراث العالمي، فضلاً عن اكتسابها الشهرة كأهم منطقة سياحية في العراق، واهتمام الاعلام المحلي والدولي بها كمعلم حضاري، مشدداً على أنّه لا توجد “إرادة” لتطوير تلك المناطق، ولم تكرس الأدوات المناسبة لذلك التطوير، وليست “هنالك توجهات من شأنها العمل على خدمتها ورفع شأنها”.
الاعلامي والناشط المدني جواد كاظم اسماعيل، الذي يسكن هناك، اصطحبنا معه في الأسواق؛ شارحاً لنا مفردات أبناء الهور وأسماء الأشياء، من غير أن يخفي ألمه لسوء التخطيط وإهمال تلك المنتجعات الطبيعية الجميلة، وشدد على أن عملية تطوير الأهوار لا تحتاج إلى أموال ولا إلى جهد كبير، بل إلى تخطيط أمثل وحرص وإبداع وتفكير من المسؤولين، مبيناً أنَّ الأهالي البسطاء هم الذين يتولون توفير مستلزمات السائح بأدواتهم وإمكانياتهم البسيطة.
هموم الجياع
وقبل أن نتوجه إلى عمق الأهوار في المشحوف توقفنا قليلاً قرب الشارع العام لمدينة الجبايش لنلتقي أم كمال؛ المرأة الجنوبية التي اتعبتها الدنيا بعد أن رحل زوجها رحمه الله تاركاً لها خمس بنات لا معيل لهن غيرها، معتمدة في تدبير أمور حياتها على بيع الأسماك.
تقول هذه المرأة الصابرة: إن راتب الرعاية الاجتماعية مع شحته وعدم توفيره أبسط الحاجات الأساسية إلا أن دائرة الرعاية الاجتماعية قطعت تلك 90 ألف دينار قبل أربعة أشهر من دون معرفة الأسباب، “وكأنّ الدولة استكثرت المبلغ علينا”.
كانت يداها مضرجتين بدم السمك وهي تفترش الرمل وقد حرصت على أن يكون السواد ملبسها، منذ أن عاكستها الحياة، وأدارت لها ظهر الفرح، وحالها لا يختلف عن مثيلاتها من نساء مناطق الأهوار اللواتي يقول لسان حالهن: “فرح .. يهل الفرح شراي بيعوني.. يمر بيه الفرح وأحزاني بعيوني”.
وعلى بعد مترين عن أم كمال يحدثنا سعد رمضان البالغ من العمر 35 عاماً، يعيل أولاده نور وهاجر وزينب وحيدر، يقول: أسكن مع عائلتي في “خرابة”… قالها بحزن شديد.. ثم أماط اللثام عن وجهه قليلاً، ليقول: بيع السمك لا يسدّ الحاجة.. يوميتي أحيانا لا يبقى لي منها سوى خمسة آلاف دينار.. ثم توقّف عن الكلام تاركاً لخيالنا ترجمة إحساسه وأمنياته بالعيش الرغيد في منزل لائق ودخل مناسب ومستقبل سعيد لأسرته.
المشحوف وسط الهور
الأجواء الهادئة وسط البردي الممتد طويلاً عبر مساحة الأهوار الواسعة تترك في النفس استرخاء منقطع النظير.. ابن الهور عباس جواد كاظم صديقنا الذي حمل معه الاسماك ليشويها حال وصولنا إلى “الجباشة”؛ وهي الجزيرة الصغيرة المرتفعة فوق المياه التي يبنيها الأهواريون بأنفسهم وبطريقة أجدادهم السومريين باستخدام القصب والطين، تحيطها أجمات القصب والبردي من كل مكان، في وقت كان أبو علي صاحب المشحوف يقوده ببراعة ليشق طريقه وسط الأمواج الباردة، وكانت القوارب المحملة بالسائحين المحليين تمرّ بنا عائدة، حتى ابتعدنا مسافة بعيدة عن اليابسة، وقد لفت انتباهنا أن بساطة الناس وعسر حالهم جعلتهم أكثر طيبة وكرماً، وأن أخلاق الريف متجذرة فيهم، فبعد خمس ساعات قضاها معنا صاحب المشحوف لم يقبل أن يتسلّم منا أي أجر إلا بعد إصرارنا الشديد عليه، كما أن جميع من صادفناهم كان الحياء صفتهم واحترام القادمين اليهم يكاد أن يكون مسؤولية أخلاقية توارثوها جيلاً إثر جيل… فالناس هناك تؤكد لنا أن رأسمالهم المحبة وترسيخ القيم الاجتماعية النبيلة من غير أن تلوثهم متغيرات الزمن وظروف الحياة وتبدلاتها… لكن أعينهم تنتظر لمسة وفاء من الدولة للاهتمام بهم من أجل تعويض معاناتهم ولكي تشكّل مناطقهم مورداً آخر للدخل القومي بعد إعداد الخطط الكفيلة بالنهوض بذلك التراث العالمي الذي لم يرفع عنهم الفقر والحرمان والإهمال.