مرارة القدر

818

رجاء خضير /

أتؤمن بلعبة القدر؟ أتعلم شيئاً عنها؟ إن كنت لا تعلم فتعال لأقصّها عليك عبر حكايتي, فأنا قد نزعتُ أشواك آلامي بيدي لأحيلها إلى ورود, لكني أخففتُ, فالحنظل تبقى مرارتهُ أبداً… أبداً.
(ش)، امرأة شابة اقتربت من الثلاثين، تقول: أكملتُ دراستي الجامعية, وعُينتُ في إحدى القُرى الريفية رغم معارضة والدتي بسبب بُعد القرية عّنا وخوفاً عليّ من أناس لا نعرفهم, لكن والدي استطاع إقناعها ووعدها بأن ينقلني إلى منطقة سكناي قريباً.
هكذا بدأت حياتي العملية, بين هاجس الخوف من عملي (طبيبة) أمارس مهنتي بين شريحة نساء لا يفقهن من حياتهن سوى الأكل والإنجاب وطاعة الرجل، وبين خوفي من الغُربة, هوّنت عليّ الأمر إحدى الطبيبات كانت قد سبقتني إلى هذا المركز، ساعدتني كثيراً, وشرحت لي الأمور جميعها لئلا أقع في الخطأ، ولاسيما مع سكان هذه القرية.
بمرور الأيام تشجعت وازدادت خبرتي في الأمور الطبية وفي تعاملي مع الناس أيضاً.. ومن بين عشرات المراجعين لفت نظري شاب جميل وسيم هادئ في تصرفاته مع المرأة التي يرافقها، وحينما جاء دورها, شرح لي ما تعانيه منذ بضعة أيام, لكني لم أعرف ما صلة قرابته لها! وأثناء فحصي لها تأكدتُ من أنها حامل، ولكن خشيت إخباره بذلك، فكرتُ في أشياء غامضة حينها, لذا طلبتُ منه أن يتركني مع المريضة ويخرج لدقائق, نظر إليّ نظرات استغراب ودهشة, ولا أعرف لماذا دخلت نظراته هذه قلبي بلا استئذان, خرج وسألتُ المريضة: من يكون هذا؟ أجابتني: إنه زوجي!
قلت لها: إذاً، أنتِ حامل في الشهر الثاني, فلأخبرهُ! أمسكتني بقوة من يدي لتمنعني من إبلاغه! وأخبرتني بأنها لا تحبه, بل تريد الانفصال عنه قريباً, وأنه إذا سمع بالخبر قد يرفض الطلاق، سألتها: وماذا ستفعلين إذاً! أجابتني المريضة: لا أعرف.
تركتها وناديت عليه وأخبرته بأنها تحتاج إلى تحاليل وأشعة، وفيما أنا أحدثه كانت نظراته تخترقني بشكل واضح, بسرعة كتبتُ لها ما تحتاجه من أدوية مهدئة لحين إكمال الفحوصات.
عدتُ إلى سكن الطبيبات وقصصتُ للطبيبة التي سبقتني بالعمل في هذه القرية ما مرّ بي هذا اليوم.
ضحكت وقالت: ستشاهدين حالات كثيرة شتى، اعلمي أن فتيات هذه القرية يُجبَرن على الزواج بأحد أقاربهن حتى لو كانت المعارضة من الطرفين, وهذا حال قُرى العراق جميعها. وأخيراً نصحتني ألّا أتدخل أكثر أو أغوص في الكلام مع المريضات.
أضافت (ش): حدثتُ والدي ليلاً وسألته ما فعل بإجراءات نقلي! وعدني خيراً وأغلق الهاتف, ثم اتصلت بي أمي بعدهُ مباشرة, وأمطرتني بالأسئلة اليومية وبكيتُ وهي تتحدث معي, لكني لم أدعها تشعر، وأغلقتُ الهاتف.
ليلاً سمعنا طرقاً على الباب، استيقظنا جميعاً، وحينما فتح الحارس الباب رأيتهُ: هو، منْ كان يرافق تلك المريضة, يستنجد بنا لزيارتها في البيت لأنها تتلوى ألماً, وأنه لا يستطيع نقلها إلى المركز, رفضت صديقتي مرافقته ووعدته أنها ستفحصها صباحاً، ولا أعرف كيف قلتُ له: سأرافقك أنا!! ذهبت معه رغم تحذيرات صديقتي، وصلنا إلى البيت فوجدتها تتلوى ألماً وثمة بضع نساء بجانبها يهدئن من روعها، فحصتها ونظراتها تتوسل بي أن لا أبوح بأمرها.
وسألتهُ: هل لديك أطفال منها؟ ضحك الزوج وقال: لم يمضِ على زواجنا سوى بضعة أشهر.
سألته ثانية: هل عملت لها التحاليل والفحوصات التي كتبتها لها؟ أجابني: هي رفضت ذلك ولا أعلم لماذا؟ عندها طلبتُ من الحضور أن يخرجوا من الغرفة ويتركوني معها لأفحصها.
أغلقت الباب وتحدثت معها بلغة قاسية: إذا لم تخبريهم أنتِ بالحمل, أنا سأخبرهم. وهنا فُتح الباب ليدخل الزوج الذي سمع كلامنا وانهال عليها ضرباً ووقفتُ بينهما لأمنعهُ من ضربها, التقت عيناي عينيه، ولثوانٍ نسيتُ نفسي, وبصرخة منها عدتُ إلى وعيي لأراها تسبحُ في بركة دماء، اتصلتُ بالإسعاف التي نقلتها إلى المركز الطبي وحضر الكادر الطبي جميعه, وصديقتي الطبيبة أيضاً ونظراتها تلومني.
انقطع الحديث بيننا جميعاً حينما خرجت كبيرة الطبيبات لتخبرنا بأنها قد فارقت الحياة بسبب إجهاضها الطفل بطرقٍ متخلفة وخطيرة, وأيضاً بسبب ضربة قوية جاءت في أسفل ظهرها, ونظرت إلى زوجها, فهو من ضربها.
المركز الصحي أبلغ الشرطة بالحضور, وحين سمع زوجها بذلك سحبني بقوة من يدي إلى الخارج وقال لي: إن أبلغتِ الشرطة بضربي إياها, عندها سأقول إنكِ أخفيتِ أمر حملها ورفضها لهذا الحمل! أنتِ ستدخلين السجن وتفقدين وظيفتك, وأنا سأخرج من القضية بسهولة!! فكري بالأمر.
حضرت الشرطة واستجوبت جميع منْ كان حاضراً ومن كانوا في البيت وحتى الزوج, الجميع اتفقوا على كلامٍ واحد هو: (كانت تتألم كثيراً). بعدها استجوبتني الشرطة, وشرحتُ لهم ما عملتُ معها, وبأنها امتنعت عن إكمال الفحوصات المطلوبة منها، هذا كل ما حدث، كان الزوج واقفاً وراء ضابط التحقيق ليتأكد مما أقولهُ.
انتهت القضية بالنسبة لهم، وقُيدت قضاءً وقدراً, أما أنا فلم تنتهِ عندي، إذ كنت أحسُ بالألم وتأنيب الضمير لأنني لم أنقذها من أحاسيسها الخاطئة ولم أصارح أهلها بما عرفتهُ منذ أول فحص لها. وبقيتُ أصارع أفكاري السود, وتخيلاتي التي لا تنتهي, وصديقتي تهوّن عليّ الأحداث وتؤكد لي أنه قدر هذه الفتاة, وكثيرات مثلها يتلقين المصير نفسه لأسباب عدة؛ الجهل والتخلف والإجبار على الزواج و….و…
على إثر ذلك مرضتُ ورقدتُ أياماً في الفراش ما اضطر أهلي إلى أن يأتوا ويعيدوني معهم إلى بغداد.
أنا الآن لا أستطيع مسامحة نفسي والتخلص من ذنبٍ ارتكبتهُ بحسن نيّة..
مرت الأيام وأنا بين أهلي أرفض العودة إلى تلك القرية، لكن الأغرب من هذا كلهُ, أن ذلك الزوج جاء وزارنا في بيتنا طالباً يدي من والدي, وبين دهشة الجميع واستغرابهم صرختُ به وطردته من بيتنا واتهمتهُ بقتل زوجته، والآن يطلبُ يدي!! يا لسخرية القدر!
وإلى الآن لم تنتهِ القضية بعد! ولا أعرف ماذا سيفعل إزاء رفضي إياه.