صراع الغرب والشرق في رواية “كم بدت السماء قريبة”
ميسون جعمور /
“تنبض ذاكرتي على رصيف” بهذه الجملة البسيطة التي تحوي فيضاً من ذاكرة، بدأت الكاتبة بتول الخضيري روايتها (كم بدت السماء قريبة) بلغة جذابة، وعودة إلى الماضي إذ تمسك البطلة بيد والدها الأقرب إليها، في إشارة منها إلى أنّ الذاكرة تبدأ بومضة، من مكان معين تستفيق في داخلنا، وتعيد مسلسلاً من ذكريات كنا عشناها ببراءة الأطفال، طقوس كانت مقدسة لكنها ما تزال تعشش فينا.
الرواية تتكلم عن قضايا متعددة تناولتها الخضيري تباعاً، وجعلتها تتضافر فيما بينها لتكوّن نسيجاً روائياً متماسكاً، بالرغم من تنافر الشخصيات بين الغرب والشرق، اللغة والمعتقدات، وبين حياة بدائية تقابلها حياة عصرية، لتنتهي بالحرب الموجعة، وما جرّته من ويلات على الأرض والشعب.
تبدأ الأحداث في العراق وتنتهي في لندن، أسرة مكوّنة من أم أجنبية باردة لديها نزعة انحياز لانتمائها، والبيئة التي قدِمت منها، وأبٍ عربي يراعي عادات بيئته، ويعشق عمله في مجال الألوان والطعومات، يسكنه هاجس تطوير ذاته وخبرته في مجاله، وطفلة تائهة بين عالمين مختلفين جذرياً، يظهر التنافر بين ثقافتيهما على نحو واضح، فالأم تريد ابنتها على شاكلتها بكل تفاصيل حياتها، تسقيها عادات وتقاليد بلدها، والأب يصرّ أن تنشأ ابنته على العادات العربية كونها تعيش في المنطقة، كان كل منهما يحاول جذبها إلى عالمه، ويرى أن الأفضل لها أن تكون شبيهة به، وهنا يبرز سؤال: أيمكننا تفسير التنافر القائم في الرواية على أنه “شخصي” كما يحصل بين أي زوجين، أم أن الأمر ثقافي حضاري، وكأن بتول الخضيري أرادت أن تعرض لنا الاختلافات الثقافية مجسَّدة في تلك العلاقة الثلاثية المعقدة؟ تبدو الطفلة كما لو أنها ثمرة ندم، ثمرة خطأ الأم التي لم تعرف كيف تتجنّب الحمل، أو تتخلّص من جنينها في الوقت المناسب، ثم صارت أمام أمر واقع وعليها تحمّله على مضض، لذلك لحقت بالزوج الذي أوهمها بسحر الشرق، تاركة وراءها حياة عصرية لطالما تحسّرت عليها، كانت تستحضرها في أغانيها ومساحيقها، تمارس مع ابنتها لعبة دسّ كلماتها الإنكليزية بين العبارات، التي لم تلاقِ من الأب أي ترحيب، فيطلب من طفلته التكلم بلغة البلد. وتزداد الهوّة بينهما فقبالة فنجان القهوة السريعة يوجد كأس شاي، والتوست بالمربى يتربع إلى جانبه الخبز والقيمر، عود بخور يوم الجمعة المحترق يقابله إشعال شمعة يوم الأحد، طقطقات سبحة الزوج التي تثير انزعاج الأم، يواجهها دخان سجائرها التي يستنكر الأب رائحتها، فأقصى نفسه في غرفة بعيدة عن غرفتها.
في البداية جاء صوت الكاتبة في صورة طفلة تتكلم مع والدها، وتذكره بالماضي فالشرق كما هو معروف تحكمه العاطفة، كان همّه ابنته التي تضخمت لائحة الممنوعات التي تفرضها الأم عليها محاولة اقتلاعها من بيئتها الشرقية، ودوزنتها على مقاييس الغرب ومعاييره، كأن تَمنعَها من الاختلاط بأولاد الزعفرانية، وترسلها كي تدرس في بغداد، وعندما تتصرف الفتاة على هواها ينزل العقاب الصارم بحقها، فتمنع من الوجبة أو تُحبس في غرفتها وتُمنع من الخروج، كانت تنتزع منها حقها في أن تتصرف بطبيعية، يجب أن تمشي وفق الإرشادات، وعندما يعبّر الأب عن رفضه لتصرفات زوجته حيال الطفلة يحتدم النقاش بينهما، فتتسلل الأخيرة إلى ملاذها “خدوج” لتمارس طفولتها بشغف دون ضوابط، بينما والداها يمارسان فن الاختلاف ويزداد الصراع بين الغرب والشرق.
الطفلة كانت تعيش التناقض في حياتها لا بسبب والديها فقط، بل كان التناقض الصارخ يلاحقها ما بين مدرسة الباليه، والعراء الذي تطلق قدميها فيه، تجاري خدوجة معلمتها في ركوب الدراجة وصيد الفراشات، خدوجة تقضي يومها تجمع الحشائش، والأغصان اليابسة، ونقل الحليب، ثم تلهو بجمع صمغ الأشجار أو الحلزون والحشرات، وكانت تختم لعبها بأن تنزع أجنحة الفراشات أو تلصقها على الصمغ حتى تلاقي حتفها ببرود وصمت، وكأنها تخفي وجعها بقتل الحشرات، وحرمانها من العيش كما حرمت هي من المدرسة، تموت خدوجة ويضعف قلب الأب ليتغير مسار حياة الطفلة، فتنتقل العائلة إلى بغداد، لكن الطفلة تصبح أكثر قرباً من والدها الذي يدخلها عالمه الملون ذا الروائح العطرية، ويلعبان لعبة التذوق والتخيّل، عالم أسرها بحلاوته وطعوماته، ويزداد الشرخ بين الزوجين، فتطالب الزوجة زوجها بالانفصال فيرفض ذلك آخذاً في حُسبانه مصلحة الفتاة التي بدل الهرب من خلافاتهما صارت تراقب لتفهم ما يجري حولها، وهنا يخلع الأب عباءته الشرقية طالباً من زوجته البقاء، وأن تمارس حريتها الجسدية مع عشيقها شرط أن لا تضر بسمعة الفتاة، تندلع الحرب لتبدأ حياة مختلفة بشح اقتصادي وخوف من الموت المرتقب في أي لحظة، وتكون لغة الحرب في مجملها عبارة عن بيانات عسكرية تحكي عن خسارات العتاد والجنود، يموت الأب وتصاب الأم بسرطان الثدي، وتقع الفتاة أسيرة هواها بعد غياب الأب وسلطته الرمزية، تخلع عباءتها الشرقية كما فعل هو سابقاً لتمارس حرية جسدها مع فنان عابر، بعدها تطير مع أمها إلى لندن، لبدء مرحلة العلاج المؤلمة، وتنخرط الأم في الكآبة وفي لحظات هذيان تبوح بإخفاقاتها المتكررة، من حمل، وزواج وإخفاق في إسعاد الزوج، وحب لرجل آخر وإخفاق في الحفاظ عليه، وعودة إلى الوطن وعدم تمكنها من الانتماء إليه من جديد!