صائغة فضة اللغة وعشتار الشعر عن لميعة عباس عمارة وكُحلها ورحيلها

638

إعداد:  آية منصور /

بدلع أنثوي، وقوة ساحقة، يتسلل صوتها الأنثوي، ليطغى في المكان، فيترك أثراً لا يمحى. لميعة عباس عمارة، شاعرة القوة والجرأة، العراقية التي واكبت الشعرية العراقية التي هيمن عليها شعراء ذكور، واحتلت مكاناً بارزاً في مشهد الشعر الحديث، وكانت من رواده.
رحلت لميعة تاركة لنا، صدى ضحكاتها الشامخة، وقصائد مطبوعة على جدران قلوبنا، قبل صفحات المناهج الدراسية..
بداية الشعر
ولدت الشاعرة لميعة عام ١٩٢٩، في منطقة الكريمات، غربي بغداد، لعائلة مندائية معروفة، إذ كان والدها صائغاً للفضة مع عمها زهرون عمارة، لكنها لم تلبث في بغداد طويلاً، حتى انتقلت مع عائلتها الى العمارة، ومنها اكتسبت كنيتها، تقول الشاعرة الراحلة في إحدى مقابلاتها الصحفية:
– بعد أن أنهيت أول ابتدائي في مدرسة الشواكة الابتدائية التي كانت في نفس شارع بيت مظفر النواب. في العمارة سكنا في شارع بغداد قرب الكحلاء والنهر، في بيت كبير من الطابوق وأكثر الناس في المدينة كانوا يعيشون في بيوت من طين. أمي ولدت بنتين في بغداد فأرسلوها إلى العمارة لتغيّر الحظ.
ومن هنا، بدأت رحلة لميعة، مع الشعر والكتابة، إذ كتبت أولى قصائدها وكانت “ابوذية” لتأثرها الشديد بجدها الذي يكتب الشعر الشعبي، ومن حواراتها، يتبيّن لنا تأثرها البالغ بالبيئة التي نشأت فيها، والمناخ الشعري الذي عاشته في تلك المحافظة الجنوبية، حتى أنّها كانت تنبهر بشدة، لأن لأهل المدينة، جميعاً، قدرة على إلقاء الشعر.
القصيدة الأولى
نشرت أول قصيدة لها في أربعينيات القرن الماضي، وكانت في الرابعة عشرة من عمرها. وبعد أن قرأ إيليا أبو ماضي قصيدتها كتب قائلاً في جريدة السمير التي كان يحررها: “إن كان في العراق مثل هؤلاء الأطفال فعلى أية نهضة شعرية يقبل العراق”. ذلك أنّه كان صديق والدها عباس، الذي قضى حياته في سفر متواصل يستلزمه عمله، ولذلك كانت دائمة التواصل مع الشاعر ايليا أبي ماضي.
الحب والشعر
التحقت الشاعرة لميعة، بدار المعلمين العالية، وكان معها في الدار، عدد غير قليل من الشعراء الذين استطاعوا تشكيل الشعر الحديث في العراق، ومنهم، بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وابن خالها الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، وكان التنافس الشعري بينهم شديداً، لكن الأقرب إليها من بينهم، كان الشاعر الراحل بدر شاكر السياب.
وتقول القصائد المتبادلة بينهما، إن هناك علاقة حب نشأت بين لميعة وبدر، حتى أنّها في مقابلات عدة، أكدت أن السياب كان أقرب الاشخاص الى قلبها، إذ كانت هي في المرحلة الأولى قسم اللغة العربية، وهو في المرحلة الثالثة بقسم اللغة الانكليزية، وتصف علاقتهما الشعرية بالقول:
– كنت أقول له بيتاً أو فكرة شعرية، هو يتأثر بجزء أو كلمة ويأخذ هذا معه ويبحر به ويجاوبني في اليوم التالي بقصيدة كاملة، في شهرزاد مثلا قلت: “أساطير نمّقها الخادعون/ وأشباح موتى تجوب العيون” هو كان يجيبني عن هذا بقصيدة.
أحبها السياب كثيراً، وكانت حاضرة في قصائده، بالمقابل، منحته لميعة الحب، لكن الظروف حكمتهما. المانع كان دائماً الصحة والدين، موضوعان لطالما كانا عائقين بوجه لميعة والسياب. تقول إنها كانت تنوي لقاءه في الكويت، لكنّه مات وحيداً ومبكراً هناك فبقيت وفية له ولقصائدهما حتى أنَّها أهدته قصيدة أسمتها “لعنة التميّز” في بداية التسعينيات وقرأتها في جمعية التمييز العنصري العربية.
الشاعرة الصريحة
تقول الصحافية والكاتبة نرمين المفتي، عن الراحلة لميعة عباس: إنها تعرفت الى لميعة شخصيا عام ١٩٨٥ وقبلها بسنوات تعرفت الى شعرها، أبهرتها شخصيتها، وأناقتها وثقتها بنفسها وحلاوتها التي كانت تضيف منها كثيراً إلى شعرها، وتضيف المفتي:
– الفضة والشذر اللذان كانت ترتديهما كما كنت أفعل قرّباني إليها.. قد لا يكون شعر لميعتنا بمرتبة شعر نازك الملائكة أو بجودته، لكنَّه كان جريئاً في البوح عما تريده المرأة وعما تشاهده.
وترى أن الشاعرة لميعة كانت صريحة مع مشاعرها وصريحة مع المتلقي، وتردف:
– كانت لها عينان عراقيتان وابتسامة تشبه عراقاً عرفناه بتنوعه وحلاوته وسلامه، هذا العراق الذي غادرنا منذ عقود طويلة ونتمنى أن يعود، لميعة كانت متفردة في أسلوبها؛ سواء في الشعر أم في الحياة.
كحل مديد وشعر هائل
استطاعت لميعة عباس عمارة كسر التابوهات المجتمعية بقصائدها الجريئة وقدرتها على توظيف الفكر الأنثوي في كلماتها، وكان رصيدها من ذلك، تسعة دواوين شعرية، أحدها كان بالعامية، وهذا ما أجادته أيضاً، اللماعة لميعة، التي يصفها الشاعر السوري هاني نديم قائلاً: إن لميعة عباس عمارة هي تصوّرٌ تام للمرأة العراقية المتخيلة. كحلٌ مديد، وشعرٌ هائل وأنوثة عظيمة غير مهتزة ولا مرتجفة. ويضيف نديم:
– في سوريا، مرّ وقت طويل ونحن على خلاف سياسي، كنا نحن الشعراء نترقب أخبار الشعراء العراقيين العظام وكأننا نتبادل منشوراً سياسياً، لعل هذا أنبت في قلوبنا مودة أعمق. كان جيلنا يستمتع بحكايات الشعراء، لميعة أحبت السياب، لا، لم تحب السياب، هذه الحكايات التي كنا نتداولها مع أشعارهم هي شعر آخر في الحقيقة، إذ يوماً بعد يوم يصبح أبطالها جزءاً أصيلاً من مفرداتنا اليوماة. ويختم حديثه مستفهماً: هل عاشت لميعة كثيراً؟ لا أظن! لقد ماتت باكراً بجفوتنا واهمالنا.
حضور طاغٍ
من جهته يؤكد الناقد الدكتور أحمد الظفيري أن لميعة عباس صاحبة القلب الشاب والروح الساحرة، امتلكت جاذبية متكاملة، فهي ذات عقل راجح ولغة محكمة ومنطق عدل، ويرى أن لميعة حملت من اسمها صفة كبيرة، هذا اللمعان والاشراق كانا يبهران كل من يراها، وربما حضورها على منصة الشعر يشهد بذلك، ويضيف الظفيري: في كل المقالات التي قرأتها عنها توترت الإشارات إلى حضورها الطاغي، وربما تجسّد لميعة الشخصية الشعرية المخملية التي يتخيلها الناس، التي تترجم وجود الشاعر فيزيائياً وليس خيالياً، فكل تلك المشاعر والرهافة في الحس تتجسّد بشخصية واقعية وليست بكلمات فقط، أعتقد أن لميعة شاعرة في كل حياتها، في ملابسها وفي ضحكتها وفي سكناتها ودموعها التي ذرفتها كثيراً على بلد ضيعها ولم تضيعه.
آلما دنهورا
وترى الدبلوماسية العراقية سهى الطريحي، وهي صديقة للراحلة الشاعرة لميعة عباس، أن قصائدها تمتد لتشمل تاريخ العراق، كما أنها بقيت مخلصة لتراثها الموغل في القدم، المتجسّد في جدتها عشتار، أو شعرها الشعبي الذي تعود فيه إلى موطنها في ميسان. وتختم الطريحي بالقول: رحلت لميعة الى عالم الأنوار أو “آلما دنهورا” معمدةً بمياه بلادها وقد عشقت وخلدت موطنها العراق، لكنها رحلت في الغربة.