النُصُب أكلها الصدأ والساحات تشكو الإهمال

641

استطلاع: زياد جسام /

النصب والساحات والجداريات في بغداد ارتبطت بتاريخ المدينة وهي تحكي قصصاً خطها فنانون عراقيون باتوا أسماء لامعة في سماء الفن التشكيلي المحلي والعربي والعالمي، ناهيك عن فنانين معاصرين صنعوا نصباً جديدة لتكون امتداداً لتلك الظاهرة العراقية الجميلة..
إلا أن اغلب النصب والساحات بحاجة حقيقية إلى إدامة وترميم، وهذا أمر يحدث في كل مدن العالم، اذ تتعرض النصب والساحات لعوامل كثيرة تجعلها عرضة للتلف والتكسير، مثل عامل المناخ والحروب والتخريب المقصود أحياناً.. وهنا استوقفتنا بعض النصب المهمة في بغداد ووقد أكل الصدأ أجزاء منها أو خُربت، ولكي لا تفقد بغداد هويتها الفنية الثقافية، أجرت مجلة الشبكة هذا الاستطلاع للوقوف على هذه الاشكالية وإمكانات حلها.
صيانات غير موفقة
التشكيلي د.محمود شبر حدثنا قائلاً: بدءاً نشيد بكل الجهود الصادقة والمخلصة للاحتفاء بعاصمتنا الجميلة بغداد وبالنصب والتماثيل الموجودة فيها التي اصبحت جزءاً ثميناً من الذاكرة الجمعية للمجتمع العراقي بأجمله.
علينا أن نفهم أن كل عمل نصبي سواء أكان جدارية أم تمثالاً ليس ملكاً للفنان الذي انجزه أو هو مسؤولية محددة لدائرة معينة أو مؤسسة بعينها، بل هو مسؤولية الجميع من المواطن البسيط المطالب بالمحافظة على نظافة مقتربات محيط هذه الشواخص الخالدة وصولاً لأعلى سلطة في الدولة، لأنها وببساطة تعكس الواجهة الحضارية والمدنية للعراق.
وقد تفاءلنا خيراً بمشروع أطلق في أواخر عام 2017 تحت مسمى (ألق بغداد) الذي خصصت لها مبالغ ممتازة، ولكن لا أعرف أسباب التلكؤ الذي احبط هذه الفكرة التي كان المراد منها اعادة (الهيبة) الجمالية لتلك الأعمال النصبية والساحات الملحقة بها، وقد رأينا على ارض الواقع مشروع صيانة نصب (ساحة النسور) للفنان الراحل ميران السعدي، وكذلك النصب الموجود في ساحة العلاوي.
ولكن يبدو أن أعمال الإعادة والتأهيل لم تكن بمواصفات عالمية ولهذا لم يكن عمرها (الزماني) مقاوماً لقساوة الطقس بالعراق، فهذا نصب النسور قد بدأ يتآكل بسبب الصدأ الذي طال قاعدته وجوانبه، والساحات المتبقية التي كان في النية إدامتها توقف الأعمال فيها لغيرما سبب معلوم.
وهناك محاولات أخرى كانت أمانة العاصمة تتبناها لأنها المسؤول المباشر عن هذه الساحات والتماثيل، ولكن للأسف خلت تلك الأعمال من الحرفية المطلوبة،وأثارت الرأي العام بسبب رداءتها وبدائية تنفيذها، اللهم إلا تمثال (عباس بن فرناس) في شارع المطار، فقد أديم بطريقة احترافية واعية.
انتهاكات
أما الفنان والناقد صلاح عباس فتحدث عن تاريخية هذا الموضوع قائلاً: بعد انهيار نظام الحكم الملكي في العراق سنة 1958 وبداية تأسيس الجمهورية الأولى، هرعت الجماهير المنتفضة باتجاه تمثالي الملك فيصل والجنرال مود، واقتلعتهما من جذورهما، وبعد أي متغير سياسي تعاد الكرة مجدداً وتنال من المجسمات النحتية، نصب أو تماثيل، لاسيما تلك الموضوعة في الساحات العامة، ويبدو أن العبارة الشعبية الدارجة (اكسر خشمة) فكرة متأصلة في تاريخنا الجمعي، لأن الخشم العالي دلالة الانفة والكبرياء، والعبارة تعني اكسر خشم التمثال، وبذا وصلتنا أغلب اللقى من حضارات بلاد الرافدين، مكسورة الأنوف، وهذا سياق من الحياة العراقية المسكوت عنها، التي لم يتطرق لها أي باحث في علوم الاجتماع والتربية والميثولوجيا، وحتى الدكتور علي الوردي في لمحاته لم يقدم أي اشارة عنها.
ويضيف عباس: لو حاولنا الخوض في هذا الموضوع الحساس، وتتبعنا الحالات الانتهاكية، التي تصادفنا بين حين واخر، لاسيما بعد سنة 2003 حتى الآن، فسنرى الحال المزري لتمثال أبي نؤاس لإسماعيل فتاح وأصابع يديه المهشمة، وتمثال الملك فيصل الاول المنصوب في منطقة الصالحية ببغداد، وهو من عمل الفنان الإيطالي (بيترو كونيكا)، فوضعه مؤسف ومقزز، ففي المناسبات الدينية، تارة يلبسونه الملابس وأخرى يجعلونه يحمل بيرقاً، والفنان (بيترو كونيكا) غير محظوظ في العراق، فله في بغداد ثلاثة تماثيل على درجة عالية من الأهمية، الجنرال مود وعبد المحسن السعدون والملك فيصل الأول، ونعلم أن تمثالي الجنرال مود والملك فيصل الاول اقتلعا من الجذور كما اشرنا سابقا بعد ثورة تموز 1958، ولكن أين تمثال السعدون؟ لقد جاء ثلاثة اشخاص ومعهم عربة يجرها حمار، وقطعوا التمثال من قاعدته بالمطرقة والازميل، مبقين على حذاءيه ملتصقين بالقاعدة، وكان ذلك في ليلة من ليالي ما بعد الاحتلال. أما نصب المسيرة لخالد الرحال فقد رفعت قطعه النحتية وبيعت بالوزن للسباكين في شارع 6 وشرط البيع أن يتم صهرها، وجعلها سبائك برونزية، وتمثال إسماعيل فتاح في منطقة الخلاني ببغداد الذي يتشكل من ثلاث قطع يمثل هذا التمثال مجد فن النحت العراقي ولكنه سرق ولا يُعرف مصيره.
ان موضوع الانتهاكات التي تتعرض لها الفنون العراقية هو موضوع شائك ومعقد وخطير وان متابعته تتطلب استبيانات وتحقيقات ميدانية وتقصي الحقائق، وللأسف ليس في البلاد جهة تولي اهمية للفنون وحتى وزارة الثقافة فان دورها الخجول والمرتبك لا يمكنها من اتخاذ المواقف التي ينبغي اتخاذها.
غابة التماثيل
كما تحدث لنا النحات خالد مبارك صاحب احد النصب في بغداد بعنوان “نصب السلام والخير والعطاء” الذي يتوسط ساحة حافظ القاضي، اذ قال: شيء يبعث على الحزن، حينما نرى حالة النصب والتماثيل وهي تعاني الإهمال، وتتعرض لاضرار بفعل تقادم الزمن والظروف البيئية تارة، وبفعل الاحداث التي مرت على مدينة بغداد والمدن العراقية تارة أخرى، أو بفعل الحروب والاحتلال والأحداث التي تركت أثراً سلبياً.. وأتذكر مقولة أو أمنية للنحات الراحل محمد غني حكمت عندما قال (أتمنى لبغداد أن تكون غابة من التماثيل).
يتابع المبارك حديثه بالقول: إن النصب والتماثيل تعكس رقي المجتمع وتاريخ ثقافته، لذلك نرى مدن العالم تتفاخر بنصبها وفنانيها، النصب والتماثيل تحتاج إلى الاهتمام والصيانة دورياً، وليس عشوائيا كما حدث عند إعمار بعض الساحات والنصب، اذ كان العمل تزويقاً وليس صيانة حقيقية، ويجب تشكيل لجان من ذوي الاختصاص الدقيق بصيانة الأعمال والنصب والتماثيل، وأعتقد هذه المهمة لا تخرج عن نطاق مسؤولية أمانة بغداد ووزارة الثقافة والسياحة والآثار، فضلاً عن الجهات الساندة مثل نقابة الفنانين العراقيين وجمعية التشكيليين.
ويختم حديثه قائلاً: بإمكان هذه الجهات الاستعانة بالفنان والنحات صاحب العمل إن كان على قيد الحياة، لإرشاد الفريق المكلف بالصيانة وتوجيهه لأنه يلم بمفردات عمله من ناحية المواد المستخدمة والبنية التحتية للنصب أو التمثال، واذا كان النحات من الرواد الراحلين يجب الاستعانة ببعض من عاصروه من الفنانين وذوي الاختصاص، فهي أمانة في اعناق الجميع، وثروة البلد الثقافية والفنية ومدوناتها التاريخية.