بكلمة نكسب الأبناء وبأخرى نفقدهم
أنسام الشالجي /
لم أبالغ في العنوان أبداً، يقول الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن الكلمة الطيبة إنها صدقة، ونعلم جميعاً مدى تأثيرها الحسن وطاقتها الإيجابية في العلاقات بين أفراد الأسرة والأقرباء والجيران وزملاء العمل، بل حتى في التعاملات التجارية.
جروح الطفولة
الطبيبة الشابة طيبة، (اسم غير حقيقي، ٣١ سنة) وطالبة بورد للتخصص في الأمراض النفسية، جمالها متواضع، لكنها في غاية الأناقة، قالت إن زميلها في البورد كان مهذباً جداً وصريحاً وهو يطلب منها عنوان بيتهم ليخطبها، لكنها رفضت طلبه، ولم يعُد إلى طلبه مرة أخرى، بينما أصبحت تحبه لكنها تخشى الزواج لأنها ما تزال تعاني من طفولة قاسية. لم يضربها الوالدان يوماً، لكنها تقول إن الضرب كان أهون عليها! فقد استمر الوالدان باستخدام كلمات قاسية معها عند أي خطأ ترتكبه كطفلة، مثل “أنت قبيحة” و”أنت كسلانة”، وكانت الأم تقول لها دوماً إنها لن تتزوج بسبب شكلها، وكان رد طيبة في تمردها على الدراسة، لذلك رسبت في الصف السادس الابتدائي فأُسمِعت كلمات تجرحها حتى الآن حين تتذكرها. قررت أن تدرس وتثابر، وهكذا بدأت تتفوق من الصف الأول المتوسط سنة بعد أخرى، وباتت بين المتفوقين في دراسة الطب واختارت التخصص في الطب النفسي علّها تدواي جروحها النفسية وتمنع جروحاً مثلها عن غيرها، وقالت إن سبب رفضها لزميلها، قبل أن تتعافى تماماً من جروح الكلمات القاسية، هو خوفها أن تعامل أطفالها كما عوملت في طفولتها، ولا تنكر أنها في مرحلة ما شعرت بأنها تكره والديها، وقد أتعبها هذا الشعور جداً..
لم تطلب طيبة مني حلاً، لأنها تريد أن تعالج نفسها بنفسها، فقد رأت نفسها (حالة مرضية) حقيقية وعويصة تدرسها، وحين تجد العلاج، تكون قد تفوقت على نفسها، إنما طالبتني بكتابة موضوع وتنظيم ورشة عمل، فهناك كثير من الأطفال الذين يتعرضون إلى العنف اللفظي، ولاسيما في ظل الظروف الحياتية الصعبة التي نمر بها، أمس واليوم، وقررت طيبة بعد علاج نفسها أن تتخصص في الطب النفسي للأطفال..
التوحد
المفاجأة كانت أن عدد الذين سجلوا للاشتراك في الورشة بلغ ٦١ مشاركاً ومشاركة، وافقت طيبة أن تدير الورشة معي، قسمت المشتركين إلى ثلاث وجبات: في الوجبة الأولى، كانت حالة سميرة، (اسم غير حقيقي، ٢٣ سنة خريجة إعدادية وتعمل في معمل بلاستيك أهلي) هي الأقسى، فهي لم تواجه العنف اللفظي، لكن شقيقتها التي تكبرها بسنتين، أصيبت بالتوحد بسبب الكلمات القاسية التي كان الوالدان يستخدمانها معها، ما دفعها إلى العزلة وعدم التحدث مع الآخرين أبداً، وكانت تتناول الطعام مرغمة، وفي السابعة من عمرها أكد الأطباء للوالدين أنها أصيبت بالتوحد بسبب صمتها واعتزالها وعدم الجلوس مع الآخرين، وسنة بعد أخرى تفاقمت حالتها، لكنها استمرت تخشى التعامل مع والديها حتى الآن.
لن يكرر الخطأ
أحمد، (اسم غير حقيقي، ٢٥ سنة، جندي)، حالة صعبة أخرى، إذ لم يتمكن من إكمال دراسته بعد أن فقد الثقة بنفسه بسبب إساءة والده إليه بالكلمات، وكاد أن يفقد نفسه لكثرة بقائه في الشارع كي لا يواجه والده، لكن والدته كانت حنوناً وساعدته نفسياً، وأفهمته أن الظروف الحياتية صعبة لدرجة تجعل والده عصبياً جداً ولا يتحمل حتى نفسه، في الثامنة عشرة من عمره تطوع جندياً وتزوج في العشرين وقرر عدم تكرار خطأ والده في تربيته لولديه، وأصرت والدته أن يعيش وعائلته معهم في البيت نفسه، فهو الابن الوحيد.
اعتراف
واعترفت أم محمد، (متقاعدة، ٦٢سنة) بأنها كانت السبب في محاولة انتحار ابنتها الكبرى التي لم تسمع منها كلمة طيبة، بل كانت تؤنبها دوماً حتى من غير سبب، فقد كانت هي أيضاً البنت الكبرى وكانت والدتها تعاملها بقسوة كبيرة وتعترف بأنها تصرفت مع ابنتها بقسوة وكأنها تنتقم لنفسها، لكن محاولة الانتحار واعترافها أمام الشرطة بأنها تتمنى الموت كي لا تسمع والدتها صدمتها جداً، وقررت أن تعتذر لابنتها التي كانت حينها في السادسة عشرة وهي الآن أم لابنة واحدة.
نجاح
في المقابل، كان (أبو حسن) وزوجته يستخدمان الكلمات الحلوة مع (حسن) الذي كان متعثراً في دراسته، عكس شقيقه الأكبر الذي كان متفوقاً، لم يحاول الأب والأم تأنيبه أو مقارنته بشقيقه، بل استمرا يشجعانه ويُشعرانه أنه شاطر لكن ينقصه التركيز والاهتمام بالدروس، رسب سنتين في الابتدائية، ومع كلمات الوالدين الطيبة، حسن الآن مهندس ومتزوج يعيش مع أهله في البيت نفسه..
لم أبالغ
الآن تكتشفون أني لم أكن مبالغة في العنوان الذي وضعته لهذا الموضوع، فالكلمة الطيبة تجعلنا نكسب الأبناء بينما الكلمة العنيفة تُفقدنا إياهم، وربما يفقدون أنفسهم أيضاً وينحرفون نحو الجريمة والشارع.
وأخيراً..
يقول سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ)، صدق الله العظيم، ابراهيم-٢٤.. ورغم أن هناك تفسيرات عدة للكلمة الطيبة في هذه الآية، إلا أنها في النهاية تقف عند (الكلمة الطيبة) التي تمنح عطاياها لقائلها ولسامعها، بالكلمة الطيبة نكسب أبناءنا الذين بدورهم يكسبون النجاح والحياة.