هل خلّدت جداريات بغداد مآثر العراقيين وحضارتهم؟
زياد جسام- تصوير: حسين طالب /
تعكس الجداريات ثقافة الشعوب ومآثرها وطريقة تفكيرها وتطلعاتها، وفضلاً عن جوانبها الجمالية فهي أعمال توثق أحداثاً تاريخية مهمة في حياة الأمم .
ولطالما تلونت شوارع بغداد بجداريات عكست ثراءها الفني، لكن الجدل ظل قائماً بين قدرة تلك الجداريات على عكس إرث بغداد وقيم مجتمعها المتنوع وكونها عاصمة لبلد أنتج أعظم الحضارات وأقدمها، وبين افتقار تلك الجداريات إلى الدهشة والعمق والموضوعات التي تحاكي حضارة البلاد وتعكس قدرات مبدعيها الكبيرة وتطلعات مجتمعها أيضاً.
في محاولة لعكس الإرث العراقي بكل تجلياته ومآثره العظيمة، بادرت أمانة بغداد بمناسبة ذكرى عاشوراء على نصب جداريات تستلهم “واقعة الطف”، تلك الفاجعة التي تمثل دروساً في التضحية، عبر طبع لوحات لكبار الفنانين العراقيين من جيل الرواد وما بعدهم، وثّقوا فيها تلك الواقعة بأساليب فنية مختلفة، وعلّقت تلك الجداريات في ساحات بغداد وعلى الطرق الخارجية، ولاسيما طرق الزائرين المتجهة إلى كربلاء المقدسة.
وقد أثارت هذه المبادرة، على أهميتها وحسن توقيتها، جدلاً واسعاً بشأن قدرة فن الجداريات بالفعل على أن يكون مرآة تعكس ضمير الأمة وحضارتها وتجسيد تطلعات شعبها وتوثيق مسيرته ونضاله، وقد عكست النقاشات مدى الحاجة إلى فن يستوحي أفكاره من تاريخ هذا الشعب ويرتقي بها إلى صورة جمالية تضفي الدهشة على فضاءات بغداد.
نوافذ للجمال
يقول مدير إعلام أمانة العاصمة (سمير مرزة): إن هذه المبادرة تعكس اهتمام أمين بغداد علاء معن بالجوانب الجمالية للعاصمة، ولاسيما أنه قريب من الوسط التشكيلي، وأن مبادرته هذه كانت في إطار الخطط التي أعدها لتطوير الجوانب الجمالية لبغداد، لكنها ارتبطت هذه المرة بمناسبة عاشوراء ونفذت بتوقيتها.
ولخص مرزة فكرة هذه المبادرة بأنها “عبارة عن طباعة لوحات فنية وثقت واقعة الطف، رسمها فنانون عراقيون من جيل الرواد، وصل عددها إلى 350 لوحة وبأحجام كبيرة مختلفة حسب مواقعها، وجرى توزيعها بين عدد من ساحات بغداد، وعلى طريق الزائرين المتوجهين إلى محافظة كربلاء المقدسة”.
يضيف مدير إعلام الأمانة أن هذه المبادرة لاقت استحساناً من الأوساط الثقافية والتشكيلية بشكل خاص، وقد انعكس هذا الاستحسان، في مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، مشيراً إلى وجود ما وصفه بالرأي الآخر الذي انتقد هذه المبادرة وعدَّها غير موفقة لأسباب ثقافية وفنية.
لوحات مؤثرة
ويستعيد الفنان (ماهر السامرائي) ردود الأفعال تجاه تعليق أجزاء جدارية الفنان الراحل جواد سليم (نصب الحرية)، فعلى حد قول الفنان السامرائي أن أهالي بغداد شبهوا شخوصها بـ (الضفادع) آنذاك، لافتاً إلى أن الناس لم تهضم الجدارية في حينها باستثناء النخبة المعنية بهذا الفن. لكن بعد بضعة عقود تناغم المجتمع مع هذا العمل وبدأوا يألفون مفرداته.
وهذا الأمر انطبق على لوحات الفنان الرائد كاظم حيدر التي لم تفك رموزها التجريدية المبهمة إلا بشرح النقاد والمتخصصين إلى عامة الناس، مبيناً أن ما يسمى بـ (التشفير) هو أمر أعمق عصي على فهم الأغلبية وتفسرهم إياه.
ويشير السامرائي إلى أن هناك فنانين نجحوا في امتلاك مفاتيح التصرف باختزال لوحات كاظم، على سبيل المثال، وتوضيح ما التبس من مفرداتها، لكن الشارع نفسه فهم (حصان) فائق حسن وليس (حصان) جواد سليم أو كاظم حيدر.
ويضيف إن المجتمع منذ ١٩٧٩ لم يشهد إلا الحروب والصدمات والحصار ونكد الحياة، ومما لاشك فيه أن الفن الواقعي يؤثر في الأغلبية الساحقة أكثر من الفن التجريدي.
مشهد نخبوي
ويرى (علي عبد الحسن) مبادرة أمانة بغداد خطوة مهمة، وإن جاءت متأخرة على حد قوله، مؤكداً أن نتيجة هذه المبادرة تصب في مجرى المشهد الفني الذي يسهم لاحقاً في نشر الوعي الحسيني بخطاب جمالي معاصر ليكون ثقافة مجتمعية عامة.
ويوضح: على الرغم من أن المبادرة غير مكلفة مادياً، إلا أنها تستحق الإشادة، ولعل جمعية الفنانين التشكيليين ونقابة الفنانين العراقيين ووزارة الثقافة تقتدي بها، مؤكداً أن هناك فرصة تاريخية يحققها الفن التشكيلي العراقي تحديداً بطرح القضية الحسينية محلياً وعالمياً بمنظور نخبوي فائق الحس والذوق، وفرصة للتثقيف بإنسانية الأهداف الحسينية العابرة لكل الانتماءات العقائدية الدينية والطائفية والعرقية والقومية، هذه الفرصة يجب أن يتلقفها الفنانون العراقيون لتتحول إلى أعمال عالمية.
وشدد على أن القضية الحسينية التي عاندت النسيان والاندثار ما كانت تضاء أهدافها النبيلة لولا النخبة الواعية من المفكرين والفنانين الذين تفردوا بنضوج الوعي عن عامة الناس والجمهور، إذاً فهي قضية نخبوية الجذور، وإحياء ذكراها بالطرق المعاصرة والاقتداء بأهدافها بلغة العصر لابد من أن يكون نخبويا أيضا لكن، للأسف، كان الفنانون العراقيون بعيدين عن هذا الحدث العظيم.
وقال عبد الحسن إن جمعية الفنانين التشكيليين ووزارة الثقافة ملزمتان أخلاقياً بتنظيم فعاليات ومعارض دورية لإحياء هذه المناسبة وتخصيص الإمكانات والقدرات المادية والمعنوية اللازمة لإخراجها بالشكل المناسب وحجم الأهداف والمبادئ الإنسانية التي حملتها القضية الحسينية، أما وزارة الثقافة، فيكاد يكون معرضها التشكيلي السنوي بهذه المناسبة خجولاً إلى درجة أن كل الأعمال المقدمة تعرض سواء أكانت ناضجة فنياً أم لا، وذلك ما يضعف المعرض ويؤدي إلى عزوف الفنانين الكبار عن المشاركة فيه.
مفاهيم جمالية
وعدّ الفنان (د. محمد الكناني) مبادرة أمانة بغداد سابقة جيدة، بيد أنه دعا إلى بناء مفاهيم جمالية جديدة للفضاء الحضري لمدينة بغداد واستحداث طرق جديدة للتزيين والإضافات الجمالية لجدران المدينة ومقترباتها بتأثيث تلك الفضاءات بمقاربات شكلية وموضوعات ذات أبعاد جمالية وثقافية بأسلوب يكسر كل الأنساق السابقة في التوظيف الجمالي ويحمل مدلولات تلامس الواقع الاجتماعي واليومي وتتفاعل مع كل حدث وطني وديني وإنساني.
وشدد الكناني على أهمية أن يكون الفن ملامساً حقيقياً للبنية الاجتماعية المجتمعية المتنوعة الثقافة والذوق ومعبراً عن تطلعاتها، داعياً إلى جعل جسد المدينة جسداً فاعلاً ومتداخلاً مع الذائقة الجمعية، مؤكداً أن هذا التفعيل خطوة مهمة.
وأعرب عن أمنياته أن تجد بغداد، في عقلية أمينها علاء معن وشغفه الفني، فرصة لاستحضار عناصر التاريخ وقيم المجتمع لتجسد مساحة من الضوء والجمال وتستثمر كل حدث للتعبير عنه بشكل متحضر يناسب المشروع الثقافي والخزين الحضاري لهذه المدينة.
تاريخ شعبي
من جانبه، يعتقد الكاتب والمؤرخ الكبير (باسم عبد الحميد حمودي) أن الإفادة من إنجازات الفن التشكيلي العراقي الحديث في سياق التاريخ الشعبي لواقعة الطف والأيام الحسينية الحزينة التي تستذكر الشهادة، تسهم في إيصال الفكرة الفنية الحديثة الى الذائقة الجماهيرية العامة في هذه الأيام الحزينة التي يدعو مناخها الشعبي إلى التأمل وهو يستذكر الواقعة وتفاصيلها.
ولفت حمودي إلى أن استخدام الملصقات الشعبية المصورة، هو أسلوب دأب عليه فنانون شعبيون، كثير منهم غير معروفين من العراق وسوريا وإيران، ومن هؤلاء الفنانين الرسام العراقي الفطري الذي ظهر في كرخ بغداد في الخمسينيات الأستاذ حسن بغدادي، إذ اشتهر برسومه الواقعية الفطرية الزاخرة بالمعاني الإنسانية، وكانت هذه الملصقات وما تزال تشكل جزءاً مهماً من الذائقة الشعبية الباحثة عما يجسد تفاصيل الحزن الشعبي لاستنهاض الشجاعة الحسينية في نفوس المتلقين، ويضيف حمودي: لقد جاءت مبادرة أمانة بغداد الجيدة في توزيع اللوحات التشكيلية الحديثة في مواقع مهمة من بغداد، تجسيداً لترويج الأفكار الحداثية في التشكيل داخل الذائقة الشعبية فنياً وهو أمر محمود ومهم دون شك.
جانب نفسي
ويلفت د. نجاح هادي كبّة الى تأثير تلك اللوحات في جانبها النفسي والمعنوي على المتلقين، ولاسيما إذا كان الحديث عن جداريات تجسد واقعة الطف واستشهاد الإمام الحسين (ع) وآل بيته الأطهار فيها، هو أن تعرض هذه الواقعة الأليمة وما يتلاءم مع مجريات الحداثة وما بعدها، ولا سيما في بروز المسرح الحسيني واللوحات الفنية في عملية التوصيل للمتلقي. ومعلوم أن المدارس الفنية متعددة بين التجريدية والرومانسية والسوريالية وما الى ذلك، وهذه المدارس لا تفهمها إلا النخبة، ولذلك لن يتحقق التأثير النفسي للوحات التي عرضت لتمثيل هذه الواقعة التاريخية، فالمتلقي العادي بحاجة الى صورة يتفاعل معها نفسياً بعد فهم رموزها وفك شفراتها.
ويعتقد كبّة أنه ينبغي ألا توغل اللوحات بالرموز التجريدية البعيدة عن الواقع الحي، فإن ذلك يولّد ردة فعل معاكسة للمقصد، وتكون هذه اللوحات لمنفعة نخبة معينة بما توحيه من سيمائيات ودلالات لا تحيل مباشرة إلى الشكل الواقعي وما تجسده اللوحات الواقعية التي تأخذ بعداً مقدساً مستوحى من واقعة الطف وانتصارها المعنوي بانتصار الدم على السيف.