(مزارات بغداد) للكرملي وثيقة تؤكد أهمية التراث الاسلامي
د. علاء حميد ادريس /
يمتد تاريخ العراق الحديث عبر تاريخ ثلاث مدن رئيسة هي بغداد، والبصرة، والموصل، فحينما نطلع على تاريخ إحدى هذه المدن فكاننا نقرا العراق وتاريخه، ولكن لمدينة بغداد خصوصية تاريخية واجتماعية، لانها معبرة عن العراق بتنوعه الاجتماعي والسياسي.
ولهذا يمثل كتاب إنستاس ماري الكرملي – 1886/1947- (مزارات بغداد – باللهجة العامية البغدادية والعربية الفصحى)، وثيقة تاريخية عن بغداد وما فيها من اماكن اثرية، الكتاب صدر عن دار الوراق البغدادية، في طبعته الاولى عام 2009، حقق الكتاب د.باسم عبود الياسري وراجعه د. طالب البغدادي، فالكتاب في الاساس مخطوطة، اذ كتبه (الكرملي) باللهجة العامية البغدادية وحقق باللغة العربية الفصحى، يقول محقق الكتاب: “الكتاب الذي صح عنوانه واسم مولفه ونسبة الكتاب اليه، وكان متنه اقرب ما يكون الى الصورة التي تركها مولفه” ص7، تقوم محتويات الكتاب على اقسام عدة يبداها محقق الكتاب بمقدمة عن المخطوطة واسباب اختيارها ومنهجية تحقيق نص المخطوطة، ثم يشير الى الدوافع التي جعلته يختارها.
ثم بعد ذلك يشرح د. طالب البغدادي في المقدمة ان مخطوطة الكتاب تعنى بمزارات المسلمين في بغداد، ذاكراً فيها اهم المزارات البغدادية مع الاشارة الى الطقوس التي كانت تُجرى في تلك المزارات، يقارن البغدادي في هذه المقدمة بين كتاب الاب انستاس الكرملي وكتاب الباحثة البريطانية (الليدي درور) الموسوم (على ضفاف الرافدين – فصل مزارات بغداد) الذي الفته عام 1923، مقارنة البغدادي تخلص الى ان (الليدي درور) كانت اكثر فهماً وتعمقاً في دراسة مزارات بغداد، اذ مرت على اغلب المزارات ميدانياً واطلعت عن قرب على اهم المراقد والمزارات، وكتبت وصفاً تصويرياً لما كان يجري فيها من طقوس.
يذكر محقق مخطوطة الكتاب د. باسم عبود الياسري ان علاقته بالمزارات تعود الى ايام الطفولة التي عاشها في بغداد، حيث عاش في مكانين متباعدين من بغداد، فقسم من طفولته امضاه في محلة الشيخ علي، قريباً من بيت جده لامه في الكرخ، مستذكراً الاحتفال بالاعياد قرب مقبرة الشيخ معروف الكرخي، في حين امضى الشطر الآخر من تلك الطفولة في منطقة الزعفرانية بالرصافة جنوب بغداد، حيث مقابر الانكليز في معسكر الرشيد – الذين لم يكونوا زواراً حتماً – وجامعة الحكمة، ولهذا فالقبور حاضرة في طفولته، قبل ان يرى مقبرة النجف التي هاله منظرها فهي اكبر المقابر في العالم، وعبر هذه الرحلة تشكلت في ذهنه صورة ضبابية حول مفهوم المزارات ومدى ارتباطنا بها وتاثيرها علينا.
منهجية التحقيق
عمل محقق الكتاب على نقل لغة المخطوطة من اللهجة المحلية المحكية، الى اللغة العربية الفصيحة، مع التعريف بكل المفردات الغامضة من اسماء واعلام واماكن واحداث تاريخية، ثم عمد الى مقابلة النصين العامي والفصيح، كشفت خطوات المحقق المنهجية عن امور عدة لم تكن معروفة، منها ان الامام محمد الغزالي رغم شهرة قبره الا ان الروايات تنفي وجوده في القبر المشار اليه ببغداد.
يبين د. باسم عبود الياسري ان الحديث عن الاضرحة والمزارات لا يعني بالضرورة تناولها من جانبها الديني بل دراستها من الجانب التراثي وما تتركه فينا من مشاعر مختلفة تنتاب كلاً منا حسب ثقافته ووعيه وربما قناعته بتلك الاضرحة واصحابها، ولذلك فان لتحقيق هذا المخطوط بعداً تراثياً واجتماعياً، فالمزارات موجودة عند معظم شعوب العالم، ولا يختص بها دين ولا تتحدد بمذهب او طائفة، كما انها – ربما – تشكلت نتيجة وجود موروثات ميثولوجية قديمة اختلطت بمفاهيم دينية جاءت بعد ذلك.
يكشف المحقق انه وجد مخطوطة (مزارات بغداد) في مكتبة كاشف الغطاء العامة بمدينة النجف، وجاء حصوله عليها نتيجة جهود هذه المكتبة بجمع المخطوطات لمختلف المذاهب الفكرية والدينية، وضم المخطوط 133 صفحة، اشتملت على موضوعات اخرى غير المزارات، يبدا فيها الاب أنستاس الكرملي رصده لمزارات بغداد، بمرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني فيذكر الجانب التاريخي لصاحب المرقد، وولادته سنة 470هـ/ 1077م، وسنة وفاته 561هـ/1165م، وكان له من العمر 91 سنة، وكان قد جاء الى بغداد وهو في الثامنة عشرة من العمر، يعرض (الكرملي) لمكانة (الكيلاني) الاجتماعية والدينية، ثم يتحول الى بيان المراحل التي مر بها مرقده من قبر الى جامع للدرس والصلاة ثم إلى مزار لمريديه ومن يعتقد به، ينتقل بعدها الى مرقد الامام الاعظم ابي حنيفة النعمان، الذي وافاه الاجل سنة 150هـ/ 767م، ويقع مشهد ابي حنيفة في الجهة الشرقية من الجامع ويتصل به مصلى، ودفن في المقبرة التي دفنت فيها الخيزران ام الرشيد وزوجة الخليفة المهدي، وقال ابن الجوزي إن ابا سعد اقام في سنة 459هـ على قبر ابي حنيفة قبة عالية وكانت بيضاء على غرار قبة (السهروردي) وبنى رواقاً وصحناً وجعله مشهداً كبيراً وعمل بازائه مدرسة لاصحاب ابي حنيفة، وتعد مدرسة الامام هذه اول مدرسة عراقية للحنفية يسكن فيها الطلاب، وهي بهذا سبقت افتتاح المدرسة النظامية بما لا يقل عن خمسة اشهر.
كما تطرق (الكرملي) في كتابه الى مرقد الإمام موسى الكاظم (ع) في بغداد، وبعض الطقوس التي كانت تُجرى فيه أيام شهر محرم الحرام، إذ تقرأ قصص واقعة الطف، ويتجمهر الناس حول القارئ وهم يلطمون وينثرون التراب على رؤوسهم ويضرب بعضهم اجسادهم بالحديد حتى تدمى، مشيراً الى ان هذه الممارسات كانت تقام من أجل التبرك والنذور، ذاكراً قصصاً عدة يتداولها الناس حتى يومنا هذا.
يقدم لنا كتاب أنستاس ماري الكرملي وثيقة تاريخية عن بغداد وكيف كانت عبر مراحل تاريخية مختلفة، وهذا ما يثبت اهمية التراث الاسلامي ودوره في فهم ما مرت به المجتمعات التي تكوّن فيها، ليصبح جزءاً اساسياً من ثقافة مجتمعاتها.