اللحظات المميتة
رجاء خضير /
نخاف من ثورة مشاعر نائمة, ثورة لا تجدُ لها أرضاً تمتصها, ولا طريقاً يؤدي بها إلى (البحر)… فأين ستذهب إذن كل هذه البراكين الخامدة؟ إنها ستدمر كل منْ يعترضها لتأخذه في طريقها إلى الانحدار، إلى حيث الهاوية.
(د) ذات الثلاثين عاماً, قالت بغير تردد ولا وجل: لم تكن فكرتي، بل فكرة أخي الأكبر واقتراحه, لا أنكر أنني ساعدتهُ في تنفيذ خطته لنحصل أنا وهو على ما نريد, إذن سوف أفتتح عيادة، فقد كنت على أبواب التخرج في كلية الطب, وأخي سيحقق حلمه بالسفر إلى الخارج بغير عودة… ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.. إليك القصة كما حدثت:
نحن نسكن في بيت جميل في منطقة مترفة وراقية, والدي يعمل محامياً, وأمي مُدرسة, ربياني أنا وشقيقي تربية صحيحة واهتمّا بنا خير اهتمام, لم يقصرا علينا بشيء، وحين بلغت المرحلة الإعدادية كان والدّي يرغبان في أن أحصل على معدلٍ يؤهلني لدخول كلية الطب, وتم لهما ما أرادا, لكن كانت المفاجأة والصدمة التي لم نتوقعها أبداً، إذ مرضت أمي ولم يستطع الطب أن ينقذها من مرضها الخبيث, فتوفاها الله تعالى, وأنا بعدُ في المرحلة الأولى من كلية الطب, أما شقيقي فكان في المرحلة الثالثة من دراسته في الجامعة، ومذ ذاك شعرنا بالفراغ الكبير الذي تركته والدتنا في نفوسنا, لكن الحياة يجب أن تستمر هكذا، كان الأهل والأقارب يصبّرون والدي وإيانا، وصارت مسؤولية البيت على عاتقي إلى جانب دراستي الصعبة.
أضافت (د):
مرات عدة كنت أطلب مساعدة أخي في أعمال البيت, وكان يضحك ويقول: لا أعرف شيئاً مما تطلبين, لكني انتبهت إلى أنه قد تغّير كثيراً, صار يتأخر في العودة إلى البيت, مسرف كثيراً في أمور لا تستوجب الإسراف! عرفت من بعض أصدقائه أنه تعرف على مجموعة من الشباب الطائشين وأخذ يخرج معهم، بل يقلدهم في تصرفاتهم غير السوّية. وحينما تأكدتُ من الأمر شرحتُ لوالدي كل شيء، بل وتوسلتُ إليه أن يخصص لنا ساعة من وقتهِ، ولاسيما لشقيقي، لكن دون جدوى, لأن والدي هو الآخر انغمس بالملذات! وكأن أمي (رحمها الله) كانت صمام أمان العائلة وبعدها ليذهب كل واحد منا إلى الجحيم، تعبتُ من متابعتهما فأثر ذلك في دراستي، شكوتُ الحال لعمي الكبير فأجابني: كل إنسان مسؤول عن نفسهِ…
كان والدي يتصرف بشكل صبياني، ولاسيما مع الفتيات الصغيرات, وكم من مرة حينما أعود من الجامعة, أجدُ أن البيت على غير ما تركتهُ، هذا يعني أن والدي يجلبُ النساء أثناء غيابنا, وهذا ما أكده لي شقيقي الذي لم يكن أحسن من والدي.
واصلت (د) سرد حكايتها:
كان شقيقي يحرضني ضد والدي وبأننا يجب أن نأخذ منه المزيد من النقود بحجة أنه يبذلها على ملذاتهِ وهو بهذا العمر, حينها أجبتهُ: وأنت.. أين تصرف نقودك؟؟
لكنه واصل حديثه السيئ عن والدي، حتى بدأتُ أقتنع بكلامه مع الوقت, وبدأنا نرسمُ الخطط للإيقاع بوالدي, إذ صرنا نأخذ النقود من خزانتهِ بدون علمه بحجة أننا أولى من الأخريات بهذه المبالغ، ثم امتدت أيدينا إلى ما يملكه من ذهب ومجوهرات, وكلما نفد شيء من ممتلكاتهِ أتينا على آخر، كانت الحصة الأكبر مما نسرقه تذهب لأخي, أما حصتي فكنتُ أجمعها للمستقبل.
في يوم شتوي قارس البرد, نزل والدي من غرفته مسرعاً صارخاً: أين أموالي…أين الذهب أين…وأين, رد عليه شقيقي: ولماذا تسأل يا والدي؟؟ لنا حق بكل هذه الأشياء, ألم تجاهد أمي وتساعدك بجمعها؟ ثم لماذا تسأل عنها؟ صرخ عليه بقوة وقال (الحديث لوالدي): لأني سأتزوج من إحدى صديقاتي, وشرطها للموافقة أن أسلمها كل شيء, بل أن أكتب لها نصيبي من البيت الذي هو مناصفة بيني وبين أمكما، وذهلنا أنا وشقيقي, ومن شدة صدمتنا وذهولنا صمتنا ولم نقل حرفاً.
و أردفت (د):
وضعنا أنا وشقيقي خطة لمعرفة منْ ستكون هذه التي تضحك على والدنا، وبعد فترة متابعة ومراقبة عرفنا من تكون، إنها صديقة والدتي المقربة, التي لم تتزوج قط. ذهبنا إليها وشرحنا لها كل ما نعرفه عن علاقتها بوالدي، قاطعتنا ولم تدعنا نكمل حديثنا: أنا سأتزوج والدكما, نحن نحبُ بعضنا منذ كانت أمكما على قيد الحياة، وقد اكتشفت أمكما هذه العلاقة قبيل وفاتها.
خرجنا أنا وأخي من بيتها ونحن لا نصدق ما سمعناه منها. وفي الليل جاء والدي يعربد بصوت عالٍ ويسمعنا ما قلناهُ لحبيبته, إذن هي نقلت له ما دار بيننا, هدّدنا في تلك الليلة أن يطردنا من البيت ويرمي لنا مبلغاً من المال, حصتنا من إرث أمنا, ليبقى بعد ذلك كل شيء لحبيبته وزوجته المستقبلية!!
بكينا كثيراً لوفاة أمنا التي قد علمت بعلاقة والدنا بصديقتها, لكنها لم تقل لنا شيئاً خشية علينا من بطش والدنا. في الصباح غادر شقيقي البيت مبكراً, وعاد متأخراً وهمس لي: هل والدنا هنا؟ أجبتهُ: كلا, ذهب إليها ليتفقا على الزواج وأبلغني أنه سيطردنا قريباً! قاطعني شقيقي وقال: لن يحدث ذلك أبداً, فقط ساعديني في تنفيذ خطتي.
ارتبكتُ كثيراً وحاولت تغيير خطته القاضية بقتل والدنا!! فلم يُصغِ إليّ وهددني إن لم أساعده فسيقتلني معه, ليبقى كل شيء له، وهكذا وسوس الشيطان لي, كما وسوس لأمنا حواء من قبل, في المساء دخل والدي فرحاً, يغني وينشد أغاني الزواج… و… وهو جالس يعد نقود المهر وتكاليف الزواج, ضربه شقيقي من الخلف فوقع أرضاً…
وتلطخت النقود بدمهِ, لم يكتفِ شقيقي بل سحب مسدساً كان يخفيه تحت قميصه وصوبه نحو والدي وأصابه بإطلاقات عدة, فجأة فتحت بابنا خطيبة أبي التي أتت إلى البيت حسب الاتفاق مع والدي لتأخذ مبلغ (النيشان), وحينما شاهدتْ ما حدث، صرخت واستنجدت بالجيران الذين أبلغوا الشرطة فحضرت إلى المكان ووثقت كل شيء، والدي توفي في الحال، وشقيقي شوهد ماسكاً المسدس, وأنا ملتصقة بشقيقي خوفاً مما جرى, غير مصدقة.
أجريت التحقيقات التي أثبتت أن شقيقي بغير وعيه، إذ اعترف بكل شيء عن قصتنا, وأنا أقبعُ هنا لأنني اعتبرتُ شريكة له ولم أمنعه مما اقدم عليه.
والنتيجة.. خسرنا والدي رغم سلبياته, وأنا خسرتُ دراستي في الجامعة وحلمي في أن أكون طبيبة، وشقيقي خسر نفسه ومستقبله وأصبح مجرماً قاتلاً لأبيه..
أما أمي فقد أخذت سرّها معها إلى الأبد، هذه حكايتي..