“المعاول الراجلة” استذكار لمراسم مواراة أجساد الطف

675

حسين محمد الفيحان- تصوير: احمد القريشي /

وسط كربلاء القديمة، حيث أكبر مراسم إحياءِ ذكرى عاشوراء، وبين أزقتها الضيقة وبيوتاتها العتيقة، ثمة حركة لنساء المدينة في هذا الشهر لا تهدأ، حيث تصدح الأناشيد التي تستذكر واقعة الطف من داخل تلك البيوتات لتهز أرجاء المكان.
مآتم النساء، واستذكار الإمام الحسين وشهداء الطف، ومواساة بطلة كربلاء زينب (عليها السلام)، تحضر في هذه المجالس التي تقام على مدى شهرين متتاليين من بداية شهر عاشوراء حتى نهاية شهر صفر، إذ تقرأ “الملّاية” فصول واقعة (الطف) الأليمة على مسامع النساء العاشقات لآل البيت، وهن يذرفن دموع الحزن المقدس.
مظاهر الحزن
تقول الحاجة التربوية (صِدّيقة نصر الله)، صاحبةً واحدٍ من أعرق المجالس الحسينية النسوية في كربلاء لـ (الشبكة) : إن المآتم الحسينية النسائية هي عبارة عن أندية ثقافية دينية، تجتمع فيها نساء المحلة أو المنطقة عندما يقترب شهر محرم الحرام، الذي يعني الكثير لنساء كربلاء وأتباع آل بيت في كل بقاع العالم.
وتؤكد الحاجة صِدّيقة أن بقعة كربلاء هي أكبر بقاع الأرض تميزاً بأهلها ومعالمها من حيث إظهار الحزن والألم وإبداء كل مظاهر الحداد والعزاء، إذ سرعان ما تتشح المدينة بالسواد وترتفع الرايات وتعم مظاهر الحزن والحداد.
ولأن المرأة هي دائماً راعية البذرة الأولى في كل مضمار، فهي قد استعدت قبيل حلول شهر عاشوراء بتعليق اللافتات السود على جدران بيتها أولاً, وفتحت باحات الحسينيات الواسعة، وكست جدرانها وجلّ معالمها بلون الحداد الأسود وقطع القماش السود وقد خُطّت عليها آيات من القران الكريم، وطُرزت بأسماء أهل البيت (عليهم السلام) .
وغالباً ما يجري في هذه المجالس إلقاء محاضرات دينية وفكرية يجري التطرق فيها إلى بعض الأحكام والمسائل الشرعية، فضلاً عن إلقاء دروس في العقائد وأخرى في الفقه وغيرها، ويجري كل هذا ريثما تتجمع النساء المدعوات قبيل ارتقاء الخطيبة الحسينية المنبر الحسيني حيث تلقي النسوة قصائد الرثاء وتستذكر فصولاً من واقعة الطف، وتؤكد على الخط الرسالي للإمام الحُسين (ع) الذي ضحى بالغالي والنفيس من أجله وتفرد بواقعة استشهاد لم ولن يذكر مثلها التأريخ .
ذكرى عاشوراء
وتعد “الملّاية”، وهي سيدة تفقهت بعلوم أهل البيت وتتميز بصوتها الشجي وأسلوبها المؤثر في الإلقاء، إحدى ركائز هذه الطقوس النسائية.
وتؤكد الملّاية “حوراء” أن مجالس العزاء، وهي تستذكر فاجعة آل بيت النبي وقصصهم ومواقفهم الثابتة في نصرة دين محمد ورفض الطغيان، فإنها أيضاً مناسبة للتكافل الاجتماعي ومساندة النساء المعوزات والأرامل ودعم العوائل الفقيرة والمحتاجة، وتلك هي معاني الرسالة الحسينية الخالدة.
كما تؤكد الملّاية حوراء أن النساء يحرصن على اصطحاب أطفالهن إلى هذه المجالس، ولاسيما الفتيات ليتعلمن مبادئ ثورة الإمام الحسين (ع) والمواظبة على تعظيم الشعائر الحسينية .
وفي العادة فإن إحدى السيدات هي التي ترعى المجلس وتتولى أصول الضيافة وواجباتها وخدمة المعزّيات وتوزيع أصناف الطعام والشراب بينهن.
ولأن المرأة العراقية الحسينية بشكل عام، والكربلائية بشكل خاص, تعيش بالفعل وهي جريحة مكلومة الفؤاد لوعةً وحسرةً على مصاب الإمام الحسين (ع)، فقد واصلت المرأة أداء مراسم التعزية وانضمت إلى الركضة المليونية (ركضة طويريج) يوم العاشر من المحرم التي تتوجه حشودها صوب حرم الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس (عليهما السلام) . وبقيت صفوف النساء تندب إمامها الحُسين (ع) بالردات والهتافات و الرثاء الحسيني لساعات طوال, ريثما تتقدم شيئاً فشيئاً مجاميع المعزين المليونية للرجال فيتاح لهن حينذاك المجال للوصول إلى حرم الإمام الحسين (ع).
مسيرة المعاول
وفي هذه الأجواء الحزينة، التي تقطر حسرة وغصّة، استمرت المرأة الكربلائية بإقامة مآتم العزاء وعقد المجالس الحسينية النسوية وتهيأت لموعد الثالث عشر من شهر محرم لتنظم انطلاق مسيرات نسوية حاشدة تنطلق في ذلك اليوم الذي يمثل دفن الأجساد الشريفة التي سقطت إلى جانب الإمام الحسين (ع) يوم الطف بوادي كربلاء ، الذي تقول عنه لـ (الشبكة) أستاذة التاريخ الإسلامي في جامعة كربلاء الدكتورة انتصار السبتي :
جرت العادة أن تحمل النساء في هذه المسيرات المعاول و الفؤوس و(الزبلان)، وكذلك (الزناجيل) التي ترمز إلى وسائل الدفن التي حُفرت بها القبور قبل أن تورى أجساد شهداء الطف الطاهرة الثرى، وخلال هذه المسيرات تندب النساء الإمام الحسين (ع) ويهتفن بصرخات معاهدات إياه على المضي قدماً بالتمسك بنهج محمد وآل محمد وإحياء القضية التي أرسى الإمام دعائمها بدمه الطهور وتضحيته بأغلى ما يملك الإنسان راضياً محتسباً .
مسيرة راجلة
وتستكمل المآتم بدخول حشود النساء المعزيات إلى الحضرة الحسينية المقدسة حيث تعقد هناك مراسم وشعائر التعزية، فلقد استغرقت المرأة استغراقاً تاماً في إحياء تفاصيل الشعائر، وقد انعكس ذلك في كل تصرفاتها،إذ ساهمت المرأة وبأعداد ضخمة جداً في انطلاقات المسيرات المليونية الراجلة إلى كربلاء المقدسة لإحياء ذكرى (أربعينية) الإمام الحسين (ع) والتي لم تنس أن تأتي أيضاً بأطفالها معها، مواسيةً للسيدة زينب الكبرى (عليها السلام) التي قصدت شقيقها الحسين (ع) راجلة بعد تحريرها من سبيها من الشام إلى كربلاء ..