أم تنكرت لأمومتها وأخرى كسبتها

433

رجاء خضير /

حينما أمسكتُ القمر اعتقدت بأنني ملكتُ العالم وما فيه، ولكنه أفل مني وغاب، فبدأتُ البحث عنه ثانية… ترى كيف سأمسك بخيط من ضوئه، الضياء الذي غاب عني فجأة! ووسط دوامة الاقرار عرفتُ أنني وسط صحراء التيه لا أعرف متى الخلاص منها…..

قالت (ض) التي جاوزت الأربعين من عمرها، ولكن ملامحها مازالت جميلة وكأنها في العشرين من عمرها، قالت: نشأت بين ثلاثة أولاد (ذكور) وأنا البنت الوحيدة بينهم لذا فكان حظي أوفر منهم بالدلال والرعاية، بل والاستجابة لمطالبي التي لا تنتهي…
كان والداي مدرسين يعملان في إحدى المدارس القريبة من بيتنا وكنا نحن جميعاً متفوقين في دراستنا والسبب يعود لوالدينا ومتابعتهما لنا.
كانت حياتنا هادئة وجميلة، وفي فترة امتحانات الاعدادية التي كان شقيقي الكبير يستعد لها، ظل الجميع قلقين عليه، لاحظنا أن أمي بدأت صحتها تسوء يوماً بعد آخر، في البداية اعتقدنا أنها تفكر وتقلق على امتحانات أخي، ولكن الحال استمر حتى بعد نجاح أخي وحصوله على معدل يؤهله دخول أي كلية بالمجموعة الطبية:
اذن أمي تعاني من مرض ما، وهذا ما أكده الاطباء والفحوصات التي أجريت لها في العراق، وأيضاً في الخارج وصدمنا بالأمر، وتحول جو البيت الى حزن وهموم ازداد بعد وفاة أمي بوقت قصير من مرضها، فوجئ الجميع نحنُ وأهلها، وفقدنا أعز وأغلى شخص في الحياة….
وأضافت (ض)
هذا الحزن خففتهُ عمتنا (ر) التي كانت تعيش في الغُربة، كانت تتحدث معنا طويلاً وبأن أمنا اختارها الله بجواره و.. و…
وقبل مغادرتها نصحت والدي بالزواج، زوجة ترعاه وتهتم بنا.
نفّذ والدي نصيحتها وتزوج من زميلة له في المدرسة التي كانا يعملان فيها (هو وأمي)… وبزواجهِ انتهى آخر خيط من الراحة والألفة بيننا وبين والدنا، وصدقت القصص والحكايات التي كنا نسمعها عن زوجات الأب وقسوتهن مع أبناء أزواجهن، ولكي تصدقوا ما أقوله اليكم ما حدث معنا وخلال فترة قصيرة من زواج والدنا… أخي الكبير نقل دراسته الجامعية الى محافظة أخرى ليبتعد عن جو البيت ومشاكله اليومية وذلك بسبب تحريضها لوالدي ضدنا….
كما أن بقية أخوتي تشردوا بين أعمال مختلفة بعد أن تركوا دراستهم دون حساب من والدي، بل وتغير حرصهُ وحبه لنا الى زوجته الجديدة التي أصرت على تزويجي من قريب لها، مطلق وله أبناء صغار، ولم تفلح معارضتي لهذا الزواج وأيضاً فشلت محاولات أقربائنا بأن يعدل والدي عن تزويجي ويدعني أكمل دراستي، ولكن دون جدوى، لأن زوجته أمرت بذلك.
قبلتُ بذلك بعد أن هددنا والدي (أنا واخوتي) بطردنا من البيت، ضحيتُ بمستقبلي وآمالي من أجل أخوتي، الذين يتعذبون من قسوة والدي وزوجته، تزوجت بمن اختارته لي زوجاً، وفي بيت زوجي وجدتُ أمه المقعدة وثلاثة بمرحلة الدراسة الابتدائية….
وأضافت (ض): عاملتهم بلطف وحنان لأنهم بلا ذنب، بل هم أطفال لا يعرفون ما يحدثُ حولهم، وكذلك اعتنيتُ بأم زوجي المقعدة، كنت أتذكر أمي (رحمها الله) التي اختطفها المرض فجأة من بيننا.
وبمرور الشهور بل والسنين تعلق الأطفال بي وكذلك أنا، أشرفتُ على دراستهم وتربيتهم بالشكل الصحيح، وكانوا عوضاً عن حرماني من الإنجاب بسبب مرض نسائي ألمّ بي، وبصراحة حمدتُ الله على ذلك… لأنني لم أحب زوجي يوماً بل اطعتهُ تجنباً للمشاكل وهروباً من زوجة أبي في ما لو خرجت من دار زوجي… ثم أن اطفاله تعلقوا بي بشكل كبير وكذلك أمه التي انتقلت الى رحمه الله فيما بعد…. كانت تحبني كثيراً لاعتنائي بها و بالأولاد حيث كانت توصيني بهم خيراً.
كبروا واثنان منهم دخلا الجامعة التي يرغبونها، أما الصغير فقد كان في السادس الاعدادي….
وأردفت (ض): وفي إحدى الأمسيات الشتوية، حين كنت أذاكر واتابع دراسة ابن زوجي الصغير سمعنا طرقاً عنيفاً على الباب، أسرعنا لنفتح الباب واذا بامرأة متوسطة العمر تسأل عن زوجي، انتبهتُ أن ابن زوجي الذي فتح الباب معي اختبأ خلفي ظننته خائفاً او لأي سبب ما…..
وكانت المفاجأة…. حينما قالت الزائرة موجهة كلامها للصبي: (أنا أمك…. الا تتذكرني!)
وبدأت تكيل الشتائم لوالدهم (زوجي) وتصفهُ بأسوأ الصفات، وهنا تدخلتُ وأشرت لها بالسكوت والا سأطردها من البيت، سحبني ابن زوجي الذي هو (ابنها) وأدخلني الغرفة ليقول لي: (هذه أمي…. لقد تركتنا وهربت مع رجل آخر، هذا ما قاله لنا والدنا الذي طلقها فيما بعد) أنا أكرهها اخرجيها من البيت وألا سأتصل بوالدي وأخبره وهنا طلبتُ منه أن يصعد الى غرفته ولا يغادرها وسأتصرف مع هذه المرأة، وأفهم منها ماذا تريد بزيارتها هذه بعد سنوات طوال، وفعلاً تركنا ودخل غرفته…..
بعد دقائق بدأت نقاشها معي بشكل غير مؤدب بل واتهمتني بأشياء لا وجود لها بالحقيقة، اضطررتُ أن اتصل بزوجي الذي حضر فور سماع هذه الأخبار، لتدور معركة بينهما وتبادلا الاتهامات الماضية وطردها من البيت، ولكنها رفضت الخروج الا بعد رؤية أولادها الثلاثة، الذين أصبحوا رجالاً ويدرسون في جامعات جيدة، فصرخ بها…
وأين كنتِ حينما تركتيهم أطفال في الابتدائية لتشبعي نزواتك من رجل غريب، ضحيتِ بزوجك وأطفالك بل وحتى سمعتك من أجل شاب أصغر منك عمراً…. لماذا….لماذا وأنهال عليها ضرباً وسحبها بقوة من يدها وأخرجها الى الشارع ليتجمع الناس على صراخها ويسمعون اتهاماتها الباطلة بأننا (أنا وزوجي) نحرمها من رؤية أبنائها، الذين حضروا وشاهدوا ما يجري وهربوا لأنهم لا يريدون رؤيتها.
وهنا تدخلتُ أنا وأسمعتها ما كان بصدري منذ سنوات معرفتي بهم… قلت لها : وأين كنت وهم يبكون ليلاً ونهاراً سائلين عن أمهم! أين كنت حين يمرضون… حين يفرحون … حين ينجحون بدراستهم و….
لم اكمل كلامي حينما أخرجت سكينا من حقيبتها لتغرزها بكتفي وسط ذهول الجميع، فما كان من زوجي الا أن أخرج مسدسه وصوبه نحوها…. اطلاقات الهوان والذل حينما كان ينظر اليه الناس، عتاب الأهل والأصدقاء حينما هربت مع رجل ثانٍ ولم يفعل شيئاً و…و…. سقطت أرضاً حاولت التقاط سكينتها لتطعنه عدة طعنات وسط ذهول الجميع…..
بعدها نقلا الى المستشفى ليتوفيا معاً بعد عدة أيام…..
وهكذا بقيتُ أنا وأولاده في البيت، ارعاهم كأنني أمهم الحقيقية…. أمهم التي تخلت عنهم في ظروف هم أشد احتياجاً لحنان وعطف الأم وهم يبادلونني الحب والحنان والاحترام…. حبهم لأمٍ أصبحوا أولادها رغم أنها لم تلدهم!