“البيوت المكوّناتية” في مواجهة حركة التغيير
د. عبد الخالق حسن /
مع سقوط النظام السابق، وتسلم القوى المعارضة السلطة، نشأت فكرة التكتل في بيوتات سياسية يضم كل بيت منها الغالبية العظمى من الأحزاب، وكل بيت من هذه البيوت كان يتحرك في المساحة التي تتطلبها أساسيات انتمائه الطائفي في بلاد تركها النظام السابق تعاني الانقسامات الحادة بين مكوناتها المتنوعة.
تجربة العمل تحت عنوان (البيوت المكوّناتية) التي تمثل المكونات الثلاثة الأساسية (الشيعة والكرد)، قبل أن يلتحق بها متأخراً (البيت السنّي) بسبب توغل الإرهاب وسيطرته على قراره، مثلت هذه المكونات العنوان العريض والبداية التي انطلقت منها العملية السياسية.
وإذا كان سقوط النظام مصدر ارتياح وسعادة للشيعة والكرد، مع شعور بالحزن لدى أبناء المكون السنّي، بسبب تنحي نظام محسوب عليهم عن السلطة، لهذا جاؤوا متأخرين للركوب في باص التغيير السياسي.
لكن السؤال اليوم: هل يمكن أن تظل هذه البيوتات متماسكة، إزاء مجموعة عوامل سياسية، ومتغيرات داخلية وخارجية، والأهم إزاء غضب شعبي يحمّل هذا النظام الذي أوجدته هذه البيوتات، الفشل والمعاناة اللذين يواجهان البلاد وشعبها؟
البيت الشيعي
بعد سنوات طويلة من الاضطهاد التاريخي والملاحقات والقتل والسجن، وجدت الأحزاب الشيعية نفسها في مواجهة لحظة الحقيقة التي تأخرت طويلاً، ونقصد هنا الوصول إلى السلطة وإعادة رسم خطوط التاريخ وملامحه، مع شعور بأن الأحداث أنصفتها أخيراً، كونها تنتمي إلى الأغلبية السكانية المضطهدة في العراق.
أخذ الشيعة على عاتقهم، بالتعاون مع الكرد، مسؤولية التأسيس للنظام السياسي الجديد، فكانت أساسات هذا النظام قد ثبتت على أيديهم من خلال تبنيهم المبادئ التي جرى في ضوئها رسم ملامح العملية السياسية، كانت فكرة الاجتماع في بيت سياسي واحد يكون مظلة للأحزاب الشيعية فكرة حاضرة ومدعومة سواء من المرجعية الدينية أو من المرجعيات السياسية. وبرغم أن التحالفات الأولى في الانتخابات كانت تضم جميع القوى الشيعية، لكن الحاصل أن هذه القوى احتفظت بخصوصياتها ولم تذُبْ في فكرة البيت الشيعي الخالص، لأنها كانت تنتمي إلى مدارس واتجاهات ومرجعيات تقليد مختلفة، وهذا يعني حضور عنصر الاختلاف، سواء أكان بالقوة أو بالفعل، لأن التقليد المرجعي يحتم على متبني هذه الفكرة العودة إلى مرجعه في القضايا الدينية والسياسية، بما يجعل حصول الاختلاف أمراً طبيعياً، إذ كانت لكل قوة من هذه القوى فكرته عن الوضع الجديد، وهو ما ظهر في خطاباتها، فالمجلس الأعلى وحزب الدعوة كانا يمثلان الاتجاه الذي عاش في المنفى، وكانا ينظران بريبة إلى كل من كان في الداخل حتى من الشيعة. أما التيار الصدري وحزب الفضيلة فمرجعيتيهما مصدرها واحد، لكن حدث انشقاق لاحقاً تبنى فيه الفضيلة مرجع تقليد من نفس الخط وبرؤية جديدة، في حين احتفظ التيار بمرجعيته القديمة، وكان هذان الاتجاهان يمثلان أبناء الداخل، فضلاً عن هذا كان خطاب التيار الصدري يتجه إلى عبور فكرة المكون داخل البيت الواحد. ومع مرور سنتين على التغيير، كانت فكرة البيت الشيعي ناضجة بما يجعلها سقفاً للمكونات الشيعية الرئيسة، وكان عرابها هو الراحل أحمد الجلبي الذي كان يعمل على جمع القوى الشيعية في إطار سياسي بما يجعلها موحدة إزاء التحديات الإرهابية والسياسية، لتكون أكثر قوةً، لكن مع مرور الزمن ونضوج العمل السياسي، فضلاً عن التحولات الاجتماعية والثقافية، مع وجود عامل أساسي هو البحث عن المكاسب والامتيازات، أصبح البيت الشيعي مثل مسافرين يسكنون بيتاً واحداً، لكل مسافر غرفته الخاصة التي لايعلم الساكنون في الغرف الأخرى عنه شيئاً.
وبرغم أن مكونات البيت الشيعي تقود دوماً تشكيل الحكومة عبر اجتماعها في الكتلة الأكبر، لكن هذا الأمر ينتهي بانتهاء التصويت على الحكومة ليعود كل فريق إلى قواعده الأولى. ومع التحول المهم الذي حصل بعد احتجاجات تشرين، تشظت القوى الشيعية بفعل ضغط الشارع، وبفعل ضغط جماهيرها التي صارت تعبر عن سخطها من أداء هذه القوى، فضلاً عن محاولة البحث عن هوية وطنية بعيداً عن الهويات الفرعية، مثلما أن قانون الانتخابات الجديد قد جعل فكرة الدخول إلى الانتخابات بتحالفات موحدة غير مجدية اعتماداً على نظام التصويت في القانون. وعلى الرغم من ظهور فكرة الإطار التنسيقي الجامع للقوى الرافضة للانتخابات، مع انعزال الصدريين عنه، لكن يبدو أننا سنشهد مستقبلاً تشظيات أكبر مع وجود كل هذه الاعتراضات على العملية السياسية التي يمثل الشيعة ركنها الأساسي.
إلا أن عاملاً حاسماً سيكون دوماً هو المؤثر في توحيد رؤى المكونات الشيعية وانصهارها في بيت واحد، وهو عامل توجيهات وخطب وبيانات المرجعية الدينية .
بيت الأحلام الكردي
بالاشتراك مع الشيعة، حمل الكرد مسؤولية التأسيس للنظام السياسي الجديد في العراق. ومع استفادتهم من تجربة خروجهم من سطوة النظام السابق بعد سنة ١٩٩١، لكن هذا لم يمنع من جريان الدم فيما بينهم من خلال الاقتتال الداخلي الذي وصل ذروته سنة ١٩٩٦، بسبب الخلاف على الإدارة والمال هناك. لكن مع حصول الصلح وعودتهم لنمط الإدارة المشتركة، ومع سقوط النظام، اجتمعت إرادة الكرد على المجيء موحدين دوماً إلى بغداد مع كل تشكيل جديد للحكومة، عارضين مطالبهم التي تتعلق في الأساس بحصتهم من الحكومة، فضلاً عن مطالبهم الخاصة بتسوية الأوضاع في ما يخص المناطق المتنازع عليها. لكن الأهم في كل هذا هو حلم الدولة الكردية التي يبحث عنها الكرد منذ سنوات بعيدة. تجربة البيت الكردي تقول إن الحزب الديمقراطي، الذي يدير شؤونه بنمط إدارة عائلي اعتماداً على إرث عائلة البارزاني، يبدو هو الثابت الوحيد فيه مع حصول متغيرات في جسد حليفه الاتحاد الوطني الذي منذ أن رحل زعيمه مام جلال، صار عرضةً للتشظيات والانقسامات. فضلاً عن هذا ظهر جيل جديد من الشباب الذي أسس تشكيلات حزبية ورأي عام وأفكار مجتمعية تعمل بعيداً عن سطوة الحزبين الأساسيين، أصبحت تتحدث عن عدم واقعية الحلم الكردي في دولة مستقلة بسبب متغيرات السياسة، بل أكثر من هذا، صرنا نسمع أصواتاً تطلب أن تكون بغداد هي المسؤولة عن تقرير أحوال الناس المعيشية هناك، وهذا يعني -في ما يعنيه- أن البيت الكردي قد دب فيه الانقسام والضعف أيضاً ولم يعد متماسكاً مثلما كان سابقاً.
الخيمة السنّية
مع تأخر التحاقهم بالعملية السياسية، بسبب الكثير من التحديات، أبرزها التحدي الإرهابي الذي كان يمنع الناس من التعبير عن رأيهم في التحول السياسي، كان السنّة في العراق يشعرون بضغوطات كبيرة أحدثها التحول في السلطة التي كانوا يمسكون بها لسنوات طوال. ومع أول مشاركة لهم في الانتخابات، اتفقت إرادة الزعماء السنّة على تأسيس إطار جامع اسمه (جبهة التوافق)، يكون حاضنة للقوى السنّية. لكن مع تصدع هذا الاطار، وبروز ظاهرة الزعامات المتعددة في الوسط السنّي، انقسم البيت السنّي أيضاً بسبب الصراع على زعامة المكون التي ارتبطت دوماً بالمناصب التنفيذية العليا، ولاسيما منصب رئاسة البرلمان. هذا السياق ظل حاكماً داخل البيئة السنّية. فالزعيم السنّي يأخذ زعامته من منصبه، لكن بمجرد خروجه من المنصب يفقد هذه الزعامة، والشواهد كثيرة هنا، ولاسيما تجربة الصقور في المعسكر السنّي الذين صاروا اليوم أضعف تأثيراً، أو أن تأثيرهم انعدم تماماً، نستذكر هنا تجربة أسامة النجيفي وصالح المطلك وسليم الجبوري وإياد السامرائي، وغيرهم الكثير.
لهذا فإن تجربة البيت السنّي هي أقرب إلى معنى الخيمة من البيت المتماسك الثابت، هذه الخيمة يتبدل ساكنوها تبعاً لتحولات الوضع الانتخابي وصعود الزعامات التي لاتستقر فيها، لتغادر المشهد.
لكن السؤال الذي بات يواجه هذه المكونات المتشظية، هو ماذا عن مستقبل التكتلات العرقية والطائفية، أمام حركة من شمال البلاد الى جنوبه تسعى لتفكيك دولة المكونات الى دولة الهوية الوطنية؟ وبالطبع فإن الضربات التي تلقتها هذه البيوت جاءت نتيجة انقسامات واضحة نتيجة الصراع على السلطة، ونتيجة لفشلها في إدارة الدولة.