جيلٌ ولد وتربى بين أحضان الإرهابيات.. خلفاءُ الظل لـ ” داعش “

334

آمنة عبد النبي /

“بملابس سودٍ كئيبةٍ، وشعر طفوليّ مجعد، ويدين صغيرتين لكنهما تتقنان فنّ الذبح، حزّ رقبة دميتهِ مُبتهجاً وهو يُكبر ويُلوّح بخنجرهِ البلاستك تحتَ صيحاتِ رفاقهِ:
اللهُ اكبر.. اللهُ اكبر.”
هذا المشهدُ الدمويّ المُصطنع ليس مقطعاً في أحدِ أفلام (الأنيميشن)، وإنمّا هو لُعبة عقائدية متوارثة جددّ فيها الطفل (بلال) بيعته التمثيلية للخليفةِ، بذبحِ دميتهِ الوحيدة وإنهاءِ حياتها في داخلِ أحدِ مخيماتِ الاحتجاز ومراكزه الممتدة على طولِ الحدودِ العراقيةِ السورية.
جواسيس صغار وزارعو قنابل وكشافة بريّة تفوق أعدادهم الآلاف ينتمي لهم هذا الطفل، كانت تستخدمهم داعش في (البروباغندا) الإعلامية التي تُظهرهم في أشرطةِ الفيديو، سنواتُ تلقين مُنظمة شيطنت طفولتهم بالتدريباتِ وحزّ رقاب المرتدين، بعضهم لا يعرفون شيئاً عن آبائهم الذين قُتلوا في المعاركِ، ولا يميزون أمهاتهم البايولوجيات، اللواتي تم بيعهن ربما في سوقِ النخاسةِ أو أجبرن على الزواجِ برجالِ التنظيمِ الأجانب خوفاً من السيّاف، أو ممن قدموا مع الجهادياتِ الأجنبياتِ إلى معسكراتِ دولة الخلافة.
مصير مجهول
سنوات وحالة قلق تجاه مصيرهم وما يجب فعله لإنهاء هذا الملف الملغوم، تُرى ما حكاية خلافة الظلّ التي تعمل في الخفاءِ على إعادةِ تجنيدِ وتهيئةِ الأطفال ليكونوا مقاتلي المستقبل، وبإشرافٍ نسائي، ولماذا تتعامل الحكومات والأجهزة الأمنية مع داعش بطريقةٍ عسكريةٍ فحسب؟ مع أن خطره فكري عقائدي يحتاج إلى استئصالِ سرطان إبادة المختلف من الذاكرة، وهل حقاً أن هؤلاء هم ضحايا الصراعات الإقليمية التي وظفت التكفير سياسياً لتصفيةِ حساباتها مع الخصومِ بالنيابة؟
هاربة من الجحيم
“يسمونهُ سوق النخاسة أو سوق الموت.. لا فرق”.. نجت منه بأعجوبة في رحلة هروب مُرعبة من قرية (العدنانية) في أطرافِ الموصل، حتى وصلت في النهاية إلى ألمانيا، بعد أن اضطر والدها -مُرغماً- (قبل ان يقتل)، إلى تزويجِ أختها برجلٍ من رجال داعش فأنجبت منه ولداً مأزوماً مُذ شاهد أباه أشلاءً مُقطعة في عمليةٍ انتحارية أثناء المواجهات، تقول (زهرة.ل) بعد تنهيدة:
“الموت على طريقة داعش مرعب وله أساليب عديدة، أقلها الجلد، وأعنفها الحرق حيّاً، والدي لا يُلام على مصيرنا، لأنه كان مجبراً ولم يجرؤ على تغيير صهره الذي انغمس في أفكار التنظيم التي أوصلته إلى الموتِ كانتحاري، تاركاً أختي في مخيمات الاحتجاز مع طفلها الذي لا يملك أيّة جنسية، ولا أوراق ثبوتية، ولا مدرسة، وكل ما يعرفه أن أباه ذهب شهيداً إلى الجنة، هذا الطفل نشأ وهو مؤمن أن الألعاب تماثيل مُحرمة وأن ظهور شعر الرأس يوجب قطعه، أما الدم الذي غزا ذاكرته فقد كان كافياً لحفظ صور القتل المتكررة لحزِ رقاب المرتدين، لأن داعش كانت تتعمد تنفيذ الإعدامات والجلد في الساحات العامة لتعميق ذاكرة الرعب، كان يرى -وبأمِ عينيه- كيف كنّا نقع في يدِ (نساء الحسبة) لو صادفت إحدانا دون نقابٍ أو جوارب، فتحيلها الى (العضاضة) لتنال عقوبتها الشرعية المناسبة، وهو ما حصل لي، وما زالت آثاره على كتفي حينما جادلتها مرة رافضة الإذعان، لتُقيم عليّ حدّ قضم الكتف بواسطة الأسنان الحديدية..!”
أهوال مخيمات (الهول)
محميّة صحراوية معزولة، لطالما أثارت قلق المُجتمع الدولي والصحافي باعتبارهِا خلافة ظلّ صغيرة لداعش، فيها سيعاود التنظيم رص صفوفه وتعميق الولاء رمزياً لدولة الخلافة بين أطفاله ونسائه من خلالِ ما لُوحظ على الأطفال هناك عبر اللعب بالرايات والسيوف الوهمية تقليداً لمسلحي التنظيم، هذا المُخيّم العملاق الذي يقع بين الحدود السورية والعراقية، يضم آلاف النساء والأطفال من جنسياتٍ متعددة ممن نزحوا بسبب المعارك والمُقسمين بين من عُثر عليهم في المناطق المُحررة بلا أمهات، وآخرين يعيشون مع عائلاتهم، كذلك الذين ظلوا في المخيم مع أمهاتهم لأنهم فقدوا آباءهم، جميعهم لا يملكون أوراقاً ثبوتية، ولا يعرفون الكتابة ولم يدخلوا المدارس، لذلك فإن قضية وجود سلوكياتٍ عنيفة تنذر بالخطر هي أمر طبيعي، ومنها حينما أقدم أحد الأطفال على ذبحِ صديقه المُقرب بسكين المطبخ لمجرد أن إحدى نساء الخيمة طلبت منه ذلك بعدما تلقت إشارة من خارج المُخيم بكون صديقه مرتداً. وطفل آخر رجم طفلة يافعة على رأسها بحجارة لأنها أظهرت شعرها، لأنه يعتبر أن المرأة التي لا تضع على شعرها حجاباً ولا على وجهها نقاباً، هي كافرة، تستوجب عليها إقامة الحدّ الشرعي والرجم.
عجينة شرّ طيّعة
الناشط الموصلي والمُدون الحربي لأحداث المعارك والتحرير(صقر آل زكريا) وثّق لنا (الوصم) الاجتماعي الذي واجه النساء وأطفالهن الممتلئين كراهية وحقداً، ممن وجدوا أنفسهم بلا هوية ولا وطن، إذ قال:
“كل طفل في هذا العالم، إذا منحته ورقة وأقلاماً ملونة، فسوف يرسم لوحة، فما بال من تُرك لمصيرٍ مجهول؟ هنالك توتر مستمر، هؤلاء الصغار عقولهم مؤدلجة بأن كل مخالف يقتل، المشكلة الأكبر أن الكل مقصر ومتغاض عن تلك القنبلة الموقوتة، تلك المخيمات المتروكة والمهملة تصنع جيلاً أعنف من كل المسميات المتطرفة، فكل يوم يمرّ وهؤلاء الأطفال يُعبأون كرهاً وحقداً ودماً لأن هذا الموضوع شائك ومعقد، وفيه أبعاد عرفية واجتماعية متداخلة تمّس البنية الأخلاقية، لأن هذا التنظيم اتخذ من النساء والأطفال ترسانة، او ظلاً لامتداده وديمومته، غير آبه بإنتاج هؤلاء الأطفال المتروكين بلا هوية ولا أوراق ثبوتية، ولاسيما ما حدث لأبناء وبنات الطائفة الإيزيدية، الذين استهدفهم التنظيم، كما باقي الطوائف المخالفة لمنهجه الإجرامي في المحافظات التي سيطر عليها، وما يؤلم هو أن هنالك العديد من السبايا وأطفالهن ممن تم تحريرهنّ بعد تحرير المدن وعدن إلى ديارهن، لكنهن جوبهن مع أطفالهن بالرفض المجتمعي والوصم الذي سيظل يرافق أطفالهن الضائعين في مجتمعاتنا الشرقية.”

ورطة الفكر والقبر
زكريا النجار، المترجم العراقي الذي كتب له ولعائلته القدر حياةً جديدة في مملكة السويد، بعد أن فرّ من الموصل إبان إعلانها مدينة للخلافة، قال مستذكراً ومتألماً:
“الرضوخ والتربية تحت مظلة الأفكار المتطرفة وفي ظروف قاسية، سواء من ولدوا أثناء المعارك، أو حتى من كان يافعاً في ذلك الوقت، الجميع سيخضع هنا لمنطق تكفير المُخالف لأن داعش، ومنذ الأسبوع الأول من احتلال الموصل، بدأت بفرض قوانينها على أهالي المدينة، ولاسيمّا الرجال، صغاراً كانوا أم كباراً، وبشكل تعسفي مغاير تماماً لما عرفه أهل هذه المدينة، إذ كان منطق السيف هو الحاكم، وطالما أن طفولة هؤلاء مقبورة، وظلت تستكمل ظرفها البائس في المُخيمات دون مدارس يتعلمون فيها، ولا أماكن للعب أو لتطوير أنفسهم، فماذا ننتظر؟ ولاسيما أن المخيمات ليست مكاناً مناسباً يعيش فيه الأطفال، فهي لا تسمح لهم بالتعلم أو الاختلاط أو أن يكونوا أطفالاً أسوياء ولا تسمح لهم بالشفاء من كل ما زُرع في عقولهم، بل قد تكون بيئات خصبة لتعزيز الشرّ تجاه العالم بأسره.”
قنابل موت موقوتة
“كل واحد منهم هو حزام ناسف (مُسلفن) مع وقف التنفيذ، ينتظر اللحظة لتدمير نفسه ومجتمعه وكل من حوله من الطوائف والملل المختلفة..” بهذا التحليل السايكولوجي المر، خصنا الأكاديمي العراقي في جامعة كوينزلاند الأسترالية د. مؤيد بلاسم، مكملاً باهتمام:
“إنهم ضحايا آبائهم الذين اختاروا هذه الآيديولوجيا المتطرفة التي لا تعرف سوى القتل والموت والكراهية والتكفير والتفجير، وكذلك هم ضحايا الصراعات الإقليمية التي سمحت بنشر الفكر التكفيري المتطرف لأسباب سياسية، وحولت شعوب المنطقة إلى أدوات قتال، فما أن يكبر هؤلاء الأطفال، حتى يتحول الشرق الأوسط، وبالأخص العراق وسوريا، إلى أتون عمليات إرهابية جديدة، والسبب هو أن الحكومات والأجهزة الأمنية تتعاملان مع داعش وفكر داعش بطريقة أمنية وعسكرية فحسب، لكن الحقيقة أن داعش وفكرها خطر فكري نتج عن ترويج الفكر التكفيري القائم على إبادة المختلف، وما يحدث في مخيمات النازحين هو مجرد إعادة تجنيد وتهيئة هؤلاء الأطفال ليكونوا مقاتلي المستقبل (بإشراف نسائي)، وأعتقد أن مواجهة هذه الكارثة تحتاج إلى تضافر الجهود المحلية والدولية لإيجاد حل مناسب، والأفضل -في رأيي- أن يتم فصل هؤلاء الأطفال عن عوائلهم، وقطع كل صلة بينهم لكي نمنع انتشار سرطان الفكر التكفيري إلى هؤلاء الأطفال، وتحويلهم من قنابل موت موقوتة إلى مواطنين صالحين، وذلك يتطلب إعادة تأهيل وبرامج تعليم تكسبهم مهارات حياتية ومهنية وأيضاً ينقذهم من ورطة الفكر التكفيري.
قلق واندماج مؤرق
لا يزال نسلُ داعش يؤرق الكثير من دول الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسها ألمانيا، لكونِ المخيمات كـ (الهول والجدعة)، مليئة بالجهاديات الأجنبيات وأطفالهن، لذلك فإن عودتهم إلى بلدانهم مُعلقة، وتدرس الحكومات استعادة مواطنيها على أساس كل حالة وظرفها، ومدى خطورتها، محذرة من محاولات عودة التنظيم من جديد إلى الساحة.
الخبيرة الألمانية في مكافحة التطرف، التي ترأس مركز مكافحة التطرف (حياة) في برلين، (كلاوديا دانتشكه) قالت في تصريحها حول هذا الشأن:
“الأحكام المُسبقة مرفوضة لأن الأطفال هم أوائل الضحايا، لذا يجب علينا العمل على ألا يتحولوا إلى إرهابيين من خلال منحهم فرص إعادة إدماجهم في المجتمع، وهو ما يتحتم علينا فعله بإنشاء شبكة تربط بين مكاتب شؤون الشباب والمدارس ورياض الأطفال ومكاتب العمل.” ذاهبة إلى “أن إرهابيي داعش الألمان اتجهوا إلى التطرف في ألمانيا، ومن واجب المجتمع الألماني القضاء على هذا الخطر الموقوت، وأن عملية الإدماج يجب أن تجري بصبر وحزم في ذات الوقت..”في نهايةِ رحلتنا الصحافيّة الشائكة، ما بين الكراهية ونسلها، يتضح جلياً أن داعش فكر إقصائي قبل أن يكون سيفاً، أو مفخخة، أو انتحارياً‏‎، لذلك فإن عملية التطهير العسكري والأمني لن تنجح وتستكمل مهمتها إلاّ بتأهيل الجانب الفكري وتنقية العقائد من فكرة إبادة المختلف، وأن الصراعات الإقليمية هي من أنتجت الفكر المتطرف وغذّته لدى شعوب المنطقة، وفخخت عقولهم بديناميت الأفكار الانتحارية التي تصور أن طريق الجنة والنعيم معبَّد بجماجم الضحايا البشرية..