سهام العشق والفراق

437

رجاء خضير /

خاصمتُ القلب الذي نبض بعشقك الأبدي, يوم أطلقتُ له عنان الحب والراحة معك, كنتُ آنذاك مخطئة بحق قلبي..
ثم ما أدراني أن السنوات تحوك لي حبلاً من مسد, لأبقى أسيرة القلب ما عشت من أيام.. ما عشت من أيام..
التقيتُ (ف) في أحد الأماكن العامة بعد فراق طويل, وبعد حديث معها طلبت أن تقص عليّ حكايتها الغريبة, وتم لها ذلك..
قالت (ف):
أنتِ تعرفين أننا ثلاث بنات, أنا الكبرى بينهن، كانت أجنحة السعادة ترفرف على بيتنا, لكن فجأة تساقطت هذه الأجنحة الواحدة تلو الأخرى, إذ أصُيب والدي بسكتة قلبية مفاجئة انتقل على إثرها إلى رحمة الله.. ولم ينتهِ الحزن بذلك, فبعد أشهر التحقت به والدتي إثر مرض لم يمهلها طويلاً, وهنا خيم الحزن والظلام على بيتنا.
نحن الأخوات الثلاث في مراحل دراسية مختلفة, ولأنني الكبرى بينهن, فقد وقعت عليّ مسؤولية كل شيء، لهن وللبيت, ساعدتني بذلك خالتي الحبيبة التي لم تنقطع عنا أبداً, بل كانت زيارتها تستغرق أياماً عديدة عندنا.
كنتُ أرتاح لها، بل جميعنا كنا نفرح بزيارتها لنا, فقد شعرنا بحنانها علينا، ولا سيما أنا، إذ كنتُ منذ صباي أحب ابنها الأكبر (ع)، لكني لم أبح بهذا الحب الذي كبر مع سنواتي، فقط أمي (رحمها الله) اكتشفت ذلك، وفرحت بالأمر لأنه إنسان مثقف وذو مستقبل باهر، وطلبت مني أن يبقى الموضوع سراً بيننا (نحن الاثنتين)…
أضافت (ف):
بعد تخرجي في الجامعة وجد لي (ع) عملاً في شركة لصديقه, فعملت هناك، وكان بين فترة وأخرى يأتي لزيارة صديقه, أما أنا فكنتُ أفسر هذه الزيارة لمصلحتي.
آه.. وألف آه.. كم كنتُ مخطئة في ذلك..
وفي يومٍ طلبت خالتي منا (نحن الأخوات) التحدث إلينا بموضوع خاص, طار قلبي فرحاً, يريدُ الخروج من قفصهِ لشدة فرحهِ, بالتأكيد ستطلبني خطيبة لابنها (ع) الذي أعشقهُ كثيراً.. لكني تأنيتُ قليلاً لئلا أكشف نفسي أمامهم, لأستمع لحديثها الذي ما إن انتهت منه حتى شعرتُ بدوار شديد أفقدني توازني.. فقد قالت خالتي “أبلغكن يا بنات أختي الغالية أن ابني (ع) طلب يد أختكن الوسطى خطيبة له, بل إنه يعشقها ويحبها منذ الصغر, وأنا سألتها عن رأيها في الموضوع فلم تمانع, وها هي أمامنا نسألها مرة أخرى، فأجابت أوافق عليه زوجاً يا خالتي فأنا أحبه ايضاً !!”
حاولت جاهدة الإمساك بأعصابي لئلا يفتضح أمري، وانتهت الجلسة بتحديد موعد الخطوبة والزواج الذي كان سريعاً وسط استغرابي, بل حتى أختي الصغيرة علقت على الأمر بــ “هذا أسرع زواج عرفته.”
صمتت (ف) قليلاً ثم قالت:
تزوجت أختي من (ع) وانتقلت للعيش معه في بيت خالتي, أما أنا فبقيتُ مع أحزاني ودموعي التي لم تتوقف..
هل هو خطئي أنني لم أعترف له بحبي, أو لم أبلغ ما أحسهُ إلى خالتي و…و….
لكن القدر وأد قصة حبٍ من طرف واحد فقط!
وهكذا سارت حياتنا..
شغلت نفسي في عملي كثيراً, وحققت نجاحات باهرة فيه، ليس على مستوى العاصمة، بل وفي المحافظات أيضاً، ولأمانتي وخبرتي في عملي تقدم لخطبتي الكثيرون, ولكن كان الرفض نصيبهم, فالقلب عشق واحداً, هو محرّم عليّ الآن!!
وأمضيت حياتي مع شقيقتي الصغرى, وكرست لها وقتاً أتابع فيه دراستها, ولاسيما أنها في السادس الإعدادي وكانت ترغب في دخول كلية الطب, وهذا يعني أن تجتهد كثيراً لتحقيق حلمها هذا. بعد شهور وضعت أختي طفلها الأول الذي سُرّ به الجميع, وأنا أيضاً أحببتهُ كثيراً، وكنت أفكر لو أنصفني القدر قليلاً لكنتُ أنا أمه الآن، ولكن هو ابن عشقي وابن أختي.
نجحت أختي الصغرى وحصلت على معدل يؤهلها دخول كلية الطب التي طالما حلمت بها, وقررتُ إقامة حفل صغير لصديقاتها وأقاربنا, وصارت هذه الليلة من أسعد الليالي لولا (!) حكايتي أنا! فبعد يومين من إقامة هذه الحفلة اتصلت بي خالتي وأبلغتني أن أزورهم لآخذ الطفل معي، سألتها بفزع: لماذا يا خالتي؟
أجابت بحزن شديد: لقد أصيب (ع) وأختك بفايروس كورونا!
أغلقت الهاتف وأسرعت اليهم, لم أجد أختي ولا زوجها (ع), فقد قرر طبيبهما نقلهما إلى المستشفى فوراً لخطورة وضعهما الصحي، وقد رافقتهما خالتي, ليبقى الصغير عند ابنة خالتي الصغيرة, أخذته منها مع حاجاته وعدت إلى البيت واعتنيتُ به جيداً، كنت أحسهُ ابني..
لم أزر أختي في المستشفى, فقد منعوا عنها الزيارة لخطورة وضعها وخشية من انتقال الفايروس إلى الآخرين، أما زوجها (ع) فقد بدأ يتماثل إلى الشفاء وعاد إلى البيت, أما أختي فقد رقدت في المستشفى أياماً عديدة، وبعدها كانت الصدمة: فجأة توقفت رئتاها وقلبها لتسلم روحها إلى الله.
اشتد حزننا عليها, هي شابة لم تر من الحياة شيئاً، ولم ترتوِ من حب طفلها بعد, وهو لم يرتوِ من حليب وحنان أمه؟
يا لقدرنا الذي خُط علينا, لكن الأيام بددت حزني بحبنا للطفل البريء الذي بقى فترة طويلة عندنا, إذ لم تقوَ خالتي على رعايته لِكبر سنها وأمراضها.
وفي يومٍ جاء (ع) ليرى طفلهُ كالمعتاد، وطلب مني الاستماع إلى حديثه وأن لا أجيبهُ, بل أفكر بحديثهِ, ثم بعدها يأتي قراري.
قال لي (ع) (والحديث لصاحبة القضية ف):
صارحني بأنه يريدني زوجة له, لأن الطفل وأنا متعلقان ببعضنا, والأفضل للجميع أن تأخذي مكان أختك! وهنا اندلعت ثورة في أعماقي وصرختُ به أن يسكت ويخرج من البيت فوراً.
فوجئ عند سماع إهانتي له وبقي صامتاً!!
وأشرت إليه نحو الباب, فخرج وهو غير مصدق، لتأتي خالتي بعد خروجه بوقت قصير, وأثناء حديثها معي نسيتُ مواقفها النبيلة معنا وأسمعتها كلاماً قاسياً وجارحاً, وأفصحت لها عما أضمرته في نفسي منذ سنين تجاه ابنها, هذا الحب الذي لم تعرفه سوى أمي، الذي عذبني طويلاً.
وسألتها: هل تريدين مني أن أصبح زوجته الثانية، بعد ماذا؟ بعد وفاة شقيقتي؟
لأكون مربية لولدهِ؟! أم ماذا؟ أنا أرفضه.. وأكرههُ.
بعدها خرجت خالتي من بيتنا وأخذت معها الطفل، فصرخنا أنا وأختي الصغيرة: هو ما ذنبه لتأخذيه منا؟!
ردت بقسوة: مساءً ننتظر الرد, إما الموافقة وإما لن ترونه أبداً، فالطفل ابننا. وبعد يومين عرفنا أنهم سافروا جميعاً إلى الخارج.
معهم أخذوا ذكرى أختنا الغالية التي ماتت (رحمها الله) قبل أن تعرف بحبي لزوجها، حتى قبل أن تحبه هي.
أنا وأختي الصغيرة نتوق إلى رؤية ابن شقيقتنا ولكن !!
هذه هي حكايتي.. مع الزمن..