أمانة بغداد.. العاصمة بلا مرافق صحية
إياد السعيد /
قد يكون هذا التحقيق من المحظورات، حسب ما يزعم بعضهم، بسبب الموروث الاجتماعي الذي يستحي فيه الفرد من المطالبة بخدمة المرافق الصحية، وكأنها عار أو معيبة، بينما هي في الواقع أساس تحضر الإنسان ومدنيته.
ما شدّني إلى الموضوع هو الحاج أبو حسن (٦٤ عاماً) وحديثه التالي :”كنت ماشياً راجلاً من ساحة الميدان ماراً بالشورجة، وقاطعاً كل تلك المسافة حتى وصلت ساحة التحرير، وكانت ورطتي أنني شربت قنينة ماء بنصف لتر سببت لي حرجاً كبيراً لم أكن أتوقعه، فعلى طول هذا الطريق لم أجد أي مرافق صحية، لا حكومية ولا أهلية، حتى المطاعم تفتقدها، فاضطررت، حين وصولي ساحة التحرير، لارتياد تواليت عمومي مقرف وقذر..”
دفعني حديث الرجل لأن أعود وأسلك الاتجاه الذي سلكه أبو حسن لأستكشف الحقيقة، وفعلاً صعقت مما شاهدته، فهذه الخدمة البسيطة لم تتوافر ضمن هذه المساحة الكبيرة المزدحمة بالمارة المتبضعين والتجار والعمال، ومن باب الفضول سألت أكثر من مرة عن تواليت عمومي فوصف لي البعض طريقه، حتى وصلت وإذا به دهليز مظلم عفن يغرق بالمياه الآسنة، ينتظم داخله وخارجه طابور من الرجال ينتظرون دورهم وأغلبهم في حال حرج وبحاجة ماسة للتفريغ، ويا للأسف على هذه الحال، فلا يوجد أي جهد حكومي، ولا خاص، ولا حتى متبرع، وفّر هذه الخدمة الإنسانية المتحضرة البسيطة، وهي أساس صحة المواطن، فلا أثر لأي مرفق صحي على جانبي الشريان الرئيس في بغداد.
طابور وسط الماخور
تقمصت دور المحرَج ووقفت في الطابور لأسأل أحدهم وهو يتلوّى مستعجلاً دوره في هذا الماخور: “هل يعقل أننا ننتظر وسط هذه الرائحة وبقع الماء العفن وهذه النجاسة ؟” فقال: “ما باليد حيلة وهل هناك بديل ؟” بينما رمقني المحاسب الجالس عند البوابة بنظرة عدوانية وهو يعنفني: “إن لم يعجبك المكان اذهب إلى جامع فهو مجاني!!” ضحكت، لكن شدّني قوله وحفز في نفسي البحث في هذه الظاهرة، الخطرة صحياً، والمخجلة مقارنة بما وجدناه في كل الدول التي زرناها، فهذه حاجة إنسانية يجب تلبيتها وتوفير تواليتات صحية حديثة نظيفة تخضع لإشراف الجهات الصحية وأمانة بغداد.
الملاذ الوحيد
عباس حامد، صاحب محل في الشورجة، وتأكيداً للحال قال -مع ابتسامة ألم-: “حين أشعر بالحاجة إلى الإفراغ أنتظر –مجبراً- قبل أذان الظهر بقليل لأتوجه إلى ذلك الجامع، فهو الملاذ الوحيد، وتقريباً هو أنظف ما موجود، أما المطاعم القريبة مني فغالبيتها تفتقر إلى التواليتات، بل لغسل اليدين فقط، وإن توفر التواليت فيمنع على غير الزبون استخدامه.”
مواطن آخر سمع حديثنا فانتفض: “والله عيب وقضية مخزية أن يبحث مواطن في بلد نفطي غني عن تواليت وفي وسط العاصمة.” أردت الحصول على آراء أكثر فأشركت المواطن (سامر بدري- ٣٤ سنة)، ودار بيننا هذا الحديث:
-هل يعقل أن نتناول هذا الموضوع؟
– لمَ لا؟ هل هو محظور أم معيب وهل يرضيك هذا الحال؟
– لا، ولكن هذه الخدمة يجب أن يكون من البديهيات توافرها بدون أن نسأل عنها ولا حتى أن نناقشها!!
– صدقتَ، لذلك يجب أن نظهرها ليطلع عليها المسؤولون وأن لا نتحفظ عليها لأنها تمس المواطن في صحته ومدنيته وتحضره وتعطي انطباعاً رديئاً عن بغداد. رافقني غسان -أحد أصدقائي- عند منتصف جولتي ليريني مناظر غاية في القذارة والعفن يرتادها المستطرقون، وهي جدران أبنية قديمة يفرغ بجوارها هؤلاء وقال: “المشكلة في الوعي العام للإدارات المسؤولة عن الخدمات العامة، وأيضاً العرف الاجتماعي الضيق الذي لا يعير اهتماما لأهم زوايا الصحة المجتمعية والذوق والنظافة الفردية التي تتلخص في توفير ما كان يسميه آباؤنا (بيت الراحة)، وهو لا يكلف مبالغ كبيرة، بل مجرد مجارٍ وجدران ومكان نظيف دائماً، وهذا مشروع يمكن أن تنهض به الجهات الحكومية.”
الفجيعة في المطار..!
من جانبه يصف الدكتور هاشم حسن، أستاذ الإعلام، مشاهداته لهذه الظاهرة، التي تعدّت الشوارع لتكون في وجه ضيوف العراق عند مدخل مطار بغداد للعائدين، فوصف مشاهداته: “تشعر بالفجيعة وأنت تغادر مطار بغداد أو تصل إليه حين تقودك الحاجة إلى الحمامات، وأكاد أجزم أنها أقذر حمامات في مطارات العالم! كذلك رصدت ونشرت قذارة حمامات مسرح الرشيد الذي استقبل مهرجاناً دولياً للمسرح! وكذلك المسرح التجريبي، وحدث ذات مرة -وأنا في قلب وزارة الخارجية- حين حاول دبلوماسي أجنبي أن يستخدم الحمام فشعر بالصدمة، وهرب إلى سفارته لقضاء الحاجة! وفي شارع المتنبي كان الأدباء يشعرون بالمهانة عند استخدام حمام قذر، باختصار مؤشر عليه حجم فسادنا وانحطاط ثقافتنا وذوقنا!!”
ربما يكون هذا كلاماً مؤثراً، لكنها الحقيقة. وأرفقت مع التحقيق صورة التقطها د. هاشم حسن بكاميرته للمرافق الصحية في حديقة الأمة رمز بغداد.. كل ما تحدثنا به هو المشكلة والظاهرة تحت البحث، لكن هل يمكن أن نحقق شيئاً ما؟ وهل يمكن للشاب العاطل أن يعمل في هذا المجال: إدارة مثل هذه المرافق وتنظيفها المستمر؟ يقول شاكر (٢٨سنة): “نعم مستعد أنا وآلاف من الشباب العاطلين عن العمل ضمن هذه المشاريع الخدمية لو توفرت، فنأخذ على عاتقنا كل المهام، أليس هذا عملا شريفاً؟ أليس أشرف من أن نمد أيدينا لنستجدي الصدقة والمساعدة؟”
استنتجت من كلام هذا الشاب، أن إنشاء مئة مرفق صحي في بغداد لتشغيل ما معدله عشرة شباب في كل واحد منها وتكفل لهم إدارتها وتنظيمها وتنظيفها بإشراف أمانة بغداد ودوائر الصحة والتفتيش الرقابي ووزارة العمل سيحل المشكلة ويعيد رونق بغداد النظيفة، ويسهم في ضمان صحة المجتمع بنسبة كبيرة ويشغل ما لا يقل عن ألف شاب بتمويل ذاتي أو بصيغة تشاركية، مثل تجربة كومونات يوغسلافيا السابقة بشكل محدود، وهناك فائدة كبيرة هي تجربة مشاريع خاصة صغيرة تغني الشباب عن المطالبة بالتعيين وتخفف عن كاهل الحكومة الثقيل والمترهل..
توجهنا إلى النائب الفائز لدورة برلمانية ثانية، المختص بلجنة الخدمات العامة، فأكد: “ضرورة أن يرافق ذلك توفير خدمات أخرى مثل إنشاء مخابز مدعومة ومقاهٍ خاصة بالفن والأدب، وغيرها من المشاريع الخدمية التي ستغير واقع الخدمات المقدمة، ليس في بغداد فقط، وإنما في محافظات العراق كافة بمسؤولية مشرف على الذوق العام، وستكون -إن شاء الله- من مهامنا عند انعقاد جلسات البرلمان المقبل، ولا شك أن كل ما يخدم شعبنا ويشغل أكبر عدد من الشباب العاطل، سنطرحه ونعمل على رصد أموال لتنفيذه وسنستمع ممّن يريد أن يسهم بفكرة أو مشروع بكل ممنونية.”
أخيراً: هل يتحقق حلم الرجل المسن والمرأة والطفل والشاب في ارتياد حمامات نظيفة وصحية في بغداد؟