البلاستك.. غول يدمر البيئة وصحة الإنسان
يوسف المحسن /
لم يطرأ على بال العالِم الإنكليزي ليو بيكلاند، المولود في بلجيكا 1863، أن نجاحه في تصنيع مادة البلاستيك الصناعي، كبديل رخيص بالمقارنة مع المطاط الطبيعي والأخشاب والمعادن سيجلب كل هذه الأضرار بعد كم المنافع الاقتصادية التي حققها، البلاستك الذي دخل في الصناعات والأدوات والاستخدامات وأسهم في جعلها بمتناول المليارات من البشر تحول اليوم الى مارد مخيف ومهدد كبير وحقيقي لصحة الإنسان والتنوع الإحيائي وطبيعة الحياة على الكوكب.
البلاستك بجدواه الاقتصاديّة وأرجحية التحويل والتدوير والميزات الأخرى مثل مقاومة التأكسد وسهولة التنظيف والنقل والاستدامة كلها ذابت مع الأيام، مع بروز بحوث ودراسات تصف الأضرار الصحيّة والبيئية التي يتسبب بها، كاحتوائه على الرصاص والدايوكسين وكلوريد الفينيل والباي اسيفينول ومواد سامّة ومسرطنة أخرى تتفاقم في حال تدويره، ما دفع الكثير من المراكز البحثية للتحذير من استخدامه، وبشكل خاص أكياس النايلون والعلب البلاستيكية، في حفظ الأطعمة والمشروبات، إذ أشارت الدراسات إلى إن البلاستك يتفاعل مع الأطعمة الساخنة ويسبب الأمراض والتسمم الغذائي.
لعنة البلاستك
وعن أضراره البيئية، يقول الدكتور أحمد عبد العال، رئيس قسم هندسة العمارة في جامعة المثنى، إنها تتعدّى الى ما بعد استخدامه، إذ تمثل النفايات البلاستيكية خطراً على البيئة والتنوع الإحيائي، ويضيف: “البلاستك تحوّل إلى لعنة على البيئة، إنّه مُصنَّع ليحيا طويلاً مقاوماً لعوامل الزمن، وغير قابل للتحلل، سواء في اليابسة او المياه، وقد نجد أنفسنا أمام ملايين الأطنان من النفايات في قاع البحار او الأنهار، وهو خطر على الحياة البحريّة”، ويشير عبد العال إلى “أن 90% من الطيور تحمل في جهازها الهضمي أجزاء وبقايا بلاستيكية ضارة تسبب تلوث أنسجتها وتدمر جهازها الهضمي مع الوقت فتموت، والحيوانات ليست أوفر حظاً، التي تتسبب بأمراض للإنسان في حال تناولها او الاختلاط بها.”
ضرر بيئي:
وعلى المدى البعيد، تترك المخلَّفات البلاستيكية ضرراً هائلاً على التربة وخصوبتها، يقول التدريسي في جامعة المثنى والمتخصص بالتربة الدكتور رحيم علوان إن تراكم هذه النفايات غير القابلة للتحلل يؤثر على خصوبة التربة كنتيجة لتراكم مادة الدايوكسين الخطرة، فيما تمنع الزجاجات البلاستيكية وغيرها الأعشاب والنباتات من النمو وتحجب ضوء الشمس عن التربة، علوان أشار إلى أن “الأبحاث الحديثة أثبتت أن الأشخاص الذين يسكنون بالقرب من معامل البلاستك يعانون من الأمراض بسبب الأبخرة المنبعثة، فيما الخطر الأكبر هو على العاملين في هذه المعامل بسبب المواد الضارة التي يتماسّون معها أثناء العمل، التي تسبب الاعتلالات على المدى الطويل.”
تقييد الاستخدام:
وكجزء من رؤيتها لمواكبة أهداف التنمية المستدامة أطلقت جامعة المثنى وكلية الهندسة فيها مشروع تقييد استخدام مادة البلاستك، المشروع شمل حزمة تعليمات لتقييد استعمال علب وأكياس البلاستك والأدوات الأخرى داخل الجامعة، مع جهد تعريفي يوضح أبعاد الضرر الذي تمثله، ويرافق المشروع منهاج عمل يعده ويديره فريق متخصص من أساتذة الجامعة، بالتعاون مع جهات ساندة لنشر ثقافة التعامل مع المواد الصديقة للبيئة مثل استخدام الأكياس الورقية بدل الأكياس البلاستيكية والاستعانة بمتطوعين لتوسيع دائرة الإحساس العام بالتهديد الصحي والبيئي الذي تمثله هذه المادة.
يقول المساعد العلمي لرئيس الجامعة الأستاذ الدكتور حسين جابر المعالي “إن مادة البلاستك تمثل تهديداً مماثلا للتنوّع الإحيائي في الأنهار والبحار، والدليل ما نلاحظه اليوم في نهري الفرات ودجله، لكن الحديث عن أضرار المادة ليس جديداً، والجديد هو الخطة التي أطلقناها منذ بداية العام الحالي، وهي تقييد استخدام البلاستك داخل الحرم الجامعي، وشرعنا من خلال حزمة تعليمات وإجراءات إدارية وقانونية وتثقيفية وتعريفية لتنفيذ هذا المشروع الحيوي الذي يمثل جزءاً من الدور الذي تنهض به الجامعات والمراكز البحثية في تأشير الخلل أولاً وطرح الحلول ومن ثم المبادرة الى تنفيذها.”
تجمّعات بشريّة وعلب الماء:
وغالباً ما تشهد التجمعات البشرية الكبرى استخداماً مفرطاً لعلب المياه البلاستيكيّة والأكياس، يقول التدريسي في كلية الهندسة الدكتور زياد عبد النبي خضير “إن واحدة من كبريات الجامعات البريطانية رصدت الفعاليات البشرية الكبرى واختارت دورة الألعاب الأولمبية وبطولة كأس العالم بكرة القدم والزيارة المليونية في كربلاء المقدّسة،” الجامعة -وبحسب الدكتور زياد- أرسلت فريقاً للرصد والدراسة الى العراق، حيث أنجزت الدراسة وأكملوا المشروع، وأضاف “الزيارة الأربعينية يشارك فيها ما يقرب من العشرين مليون زائر، وهو ما يحتم استهلاك مئتي مليون علبة مياه بلاستيكية في اليوم وإذا ما عرفنا أن الزيارة تمتد لخمسة عشر يوماً فعندها يمكننا أن نتخيّل الكمية الكبيرة من العلب الفارغة التي تنتج ونحن أمام الآلاف من الأطنان، وهي تحتاج الى خطة عمل لإعادة التدوير او التخلص الآمن منها.”
الصمون الحار والأكياس:
وزارة الصحة والبيئة نفذت في شهر آب من العام ألفين وتسعة عشر حملة لمنع استخدام الأكياس البلاستيكية، الحملة رفعت شعار (نعم للأكياس الورقية، لا لأكياس النايلون).. وكانت بالتعاون مع منظمة اليونيسيف وبدعم من شبكة الإعلام العراقي، إذ صدرت توجيهات بمنع استخدام المادّة التي تتفاعل مع المأكولات الساخنة، لكن الحملة لم تستمر، إذ يقول الخبير البيئي يوسف سوادي، مدير بيئة المثنى، إنهم بصدد البدء بجولة جديدة من التصدي للسلوكيات الضارة للبيئة والتعريف بهذا الخطر الذي يصيب صحة الإنسان بشكل مباشر نتيجة الحرق او التفاعل من خلال ارتفاع او انخفاض درجات الحرارة، محذِّراً من استخدام هذه المواد، ولاسيما عبوات المياه او العصائر او غيرها، وأضاف “نتمنّى جهداً إعلاميّاً في هذا الصدد، وقد بدأنا الخطوة الأولى من جامعة المثنى، وهذا جيد وسوف نعمل بوسترات ونشرع بحملة للتثقيف وحث أصحاب الأفران والمخابز على ترك الأكياس البلاستيكية واستخدام الورقية.”
الاستثمار في التصنيع لا التدوير:
“بدلاً من منح إجازات استثمارية لمعامل البلاستك، فإن الأجدى منح ذات الإجازات لمعامل التدوير،” يشدد الدكتور زياد عبد النبي على ذلك أثناء مداخلته في الورشة التعريفية بمشروع تقييد استخدام البلاستك، ويوضح أن “فكرة التدوير هي الحل الآن، جمع النفايات البلاستيكيّة وغيرها وتدويرها لتقليل الاستيراد أولاً، ولعدم تركها سائبة في الطبيعة، وكما يحدث في محافظات الحلة وكربلاء المقدّسة والنجف الأشرف، القضية غير مجدية وليس الحل فقط في منع الاستعمال، وإنما العمل على تدوير الموجود حالياً كي لا يتكرر ما حدث في تجربة الحديد، إذ نصدر السكراب بخمسين ألفاً ونعود لنستورده بعد التصنيع بـ 600 ألف، الحل الصحيح هو في قيام صناعتنا بإعادة استخدامه ومنع المزيد من الاستيراد، وبدل أن نعطي إجازات استثمارية لمعامل بلاستك، الأجدى أن نعطي إجازات لمعامل التدوير، أما أن نطلب من المواطنين الفصل بين المخلفات الى بلاستيكية وزجاجية، دون وجود آلية لتسلم وتدوير هذه المخلفات فذلك غير مجد.”
الأذن الحكومية من بلاستك:
الخبير البيئي الدكتور عصام جواد الياسري تحدّث عن فضاءات الانطلاق بمشروع التقييد ومواجهة خطر البلاستك، مؤكداً أن الدول تحصي الداخل والخارج لها من المواد، وفي العراق أصبحنا لا نمتلك هذه الأرقام، بل وتحولت بيئتنا إلى مكب للنفايات العالمية، وفيها مارد مخيف اسمه البلاستك، ومن الواجب على كل مؤسسة بلديّة جمع البلاستك وكبسه وتصديره على شكل بالات الى الدول التي تصنعه وتعيد الإفادة منه، ومن الممكن أن يكون مصدراً ماليّاً، وبذات الوقت ننتهي من أضراره البيئية، مضيفاً “أنا وزملاء لي أنجزنا ستراتيجية في التعامل مع النفايات، لكن الجهات البلدية ليست جادة، الفكرة أن التدوير، وبشكل أولي، هو إنشاء قسم لتسويق هذه النفايات وتنفيذ خطة بعيدة الأمد وفقاً للإمكانيات المتوافرة، ولنأخذ تجارب بعض الدول في هذا المجال، فهناك دول تحول المخلفات البلاستيكية الى مواد نافعة مثل الإسفلت او قطع أثاث، وبما أننا لا نمتلك هذه القدرات حالياً، فمن الأجدى أن نعمل على إتلاف هذه المواد بطريقة آمنة مثل حرقها والإفادة من طاقتها الحرارية في مجالات عدة، والتعامل مع النفايات لابدَّ وأن يكون في دائرة نظام وافٍ يشمل المراحل كلها: الجمع والعزل والمعالجة والتحويل والتسويق، والمشروع كبير، لكن علينا أن نعمل حسب الإمكانيات لأن المؤسسات الحكومية غير متعاونة ومهتمة بأولويات أخرى.”
أما مدير البيئة المهندس يوسف سوادي فقد قال -بهذا الصدد- إن ذات الجهات البلدية التي تدّعي أنها تراعي الشروط البيئية هي ذاتها التي تمتلك معملاً لصناعة أكياس النايلون.
ضريبة خضراء:
ويبقى نظام إدارة البيئة عاجزاً عن تحقيق النتائج إذا لم تتوافر الثقافة الشعبية التي تحترم البيئة وتؤمن بأهميتها للأجيال المقبلة، إذ يقول الدكتور عصام الياسري “على الإنسان -ومن وجهة نظر أخلاقيّة- في مثل هذه القضايا أن يتذكّر أن عبوة الماء التي يشرب بها يمكن أن تسبب ضرراً صحيّاً وبيئيّاً، أجدادنا شربوا الماء ولم يسببوا ذلك”، ويستدرك “لكنَّ الالتزام الأخلاقي لا يكفي بلا ضبط قانوني ومراقبة ومتابعة، ولدينا عجز في هذين الموضوعين، لهذا على الأقل داخل الجامعة نعمل بالمتاح وهو تشجيع الطلبة والتدريسيين والموظفين على الالتزام بإنجاح المشروع، ولاسيما أن المبادرات تبدأ من الجامعة لتنطلق الى المجتمع.”