فيلم “جسور مقاطعة ماديسون” هناك لذة في الغابات المعدومة السبل

343

فدوى العبود /

لو قررنا فتح صندوق الماضي فما الذي سنعثر عليه؟
هل نبقي أسراره طي الكتمان وكأنها لعنات باندورا أم نبحث فيه عن حكمة تنقذ حاضرنا؟ وهل يشكل المال كل ميراثنا؟ أم أن الميراث الحقيقي شيء آخر؟ هذه الأسئلة وغيرها تدور في ذهن المشاهد لـــــــــ فيلم “جسور مقاطعة ماديسون”، الفيلم هو دراما رومانسية عن رواية الكاتب الأميركي روبرت جيمس والر من إخراج وإنتاج وبطولة كلينت إيستوود في دور روبرت كينكايد وميريل ستريب عن دور فرانشيسكا جونسون.
تصور الرواية الصراع العميق بين الحب والواجب، بين قيم الأنا وقيم العائلة، إنها رواية عن الشوق العارم والحيرة العميقة بين ما عشناه وما نرغب أن نعيشه، بين ما اخترناه وما اختارنا.
أسرارا الماضي
يبدأ الفيلم بمشهد الابن والابنة في حالة صدمة أمام صندوق الأم الذي يحتوي مذكراتها ووصيتها الأخيرة بأن تحرق جثتها وينثر رمادها فوق أحد جسور مقاطعة ماديسون.
هذه الرغبة –التي تخالف تقاليد الكنيسة التي تتبعها العائلة-تلقى معارضة شديدة منهما ويعتقدان أنها نتيجة لحظة خرف، لكن الصور والمذكرات التي تركتها لهما ستفسر بوضوح سبب ذلك.
تعود بهما المذكرات إلى أحداث يوم ربيعي غادرا فيه -برفقة والدهما- لحضور احتفال سنوي. تخبرهما الأم أنه وفي هذا اليوم بالتحديد ولد الحب العارم بينها وبين روبرت كينكايد الصحفي في ناشيونال جيوغرافيك 1965، الذي ضل طريقه أثناء قدومه في مهمة صحفية نحو جسر روزمان؛ لكنه وجد طريقه نحو الحب، بحيث تطوعت فرانشيسكا لترشده إلى الجسر لينمو في المسافة الفاصلة بين بيتها والمكان المنشود شغف سيتطور إلى حب يصعب سبر غوره.
يعتمد البناء البصري للفيلم على ألوان الطبيعة وتقلباتها، وتضفي الحوارات بهجة للمتعة البصرية، فهي تشرك المشاهد وتشحذ حواسه عبر استحضار الرائحة جنباً إلى جنب مع الصورة. ويبدو هذا في إشارة روبرت كينكايد لرائحة هواء “أيوا” المعطرة، إضافة إلى أن البناء البصري للفيلم ينتمي للفكرة الرومانسية التي يقدمها الفيلم عن الحب، وفي هارموني متبادل بين الطبيعة وبين مشاعر فرانشيسكا وروبرت كينكايد. إذ تشير صورة البيت والمزرعة الهادئة والطاحونة الهوائية إلى السكينة والثبات، بينما يشكل هبوب الريح، التي تعبث بثوب فرانشيسكا مع المطر الممتزج بالبكاء، لحظة تخريب هذه الهناءة بأعاصير الشغف والاتقاد، بين رغبة الإنسان بالثبات وبين التغير الذي هو قانون الحياة، تنتقل الكاميرا بين أعماق فرانشيسكا وأشجار وسماء أيوا.
فالريح الهادئة التي تعبث بشعر فرانشيسكا نبوءة لما ينتظرها من تبدل سيتحول إلى اضطراب، وإن كانت الأشجار تعانق الريح التي تنفض عنها أوراق فصل مضى وتجدد فيها الرغبة لاخضرار جديد، فإن فرانشيسكا تخاف التبدل، لكن خوفها لن يمنع من خوضها المغامرة، فبدت أيام الحب الأربعة وكأنها معزوفة تائهة وسط غابة كبيرة متشعبة، إن الريح القوية التي هبت فجأة فنزعت عن فرانشيسكا، التي تقرأ في شرفتها، ثوبها، هي إشارة لما سيعتمل في أعماقها باقتراب لحظة المصارحة بالحب.
لقد كان روبرت كينكايد فناناً مجهضاً، يختصر حياته في عبارة “الأحلام القديمة لم تتحقق لكني كنت سعيداً لأني حلمت بها،” وفي ترحاله بين البلدان، وهذه العبارة يمكنها أن تكون تعبيراً عما سيعيشانه. فهل نعيش حقيقتنا كما نشتهي؟ أم نعيش كما يرغب الآخرون؟
وحين نتخلى عن أحلامنا فإلامَ تؤول؟ تسأله في أحد المقاطع عن سبب إخفاقه في أن يكون فناناً فيجيبها: “ربما لأني فعلت ما يريدونه في ناشيونال جيوغرافيك، فهم يحبون الصور الحادة منزوع عنها طابعها الشخصي.”
الصراع بين أخلاق الفرد وأخلاق المجتمع
إن السؤال الذي يطرحه الفيلم يتجاوز السؤال الأخلاقي إلى سؤال إنساني، وهو لا يفترض إجابات مسبقة أو جاهزة، فهذه ليست وظيفة الفن، كما أن الإجابة التقليدية ستبدو ظلماً للبعد الإنساني فيه، فالمشاعر الإنسانية تتفلت من أي حكم قيمي، ولها منطقها الخاص غير الخاضع للأحكام، وكل شعور إنساني يستمد قيمته من ذاته.
في حوار بين فرانشيسكا وروبرت، يحدثها عن إفريقيا، حيث لا توجد أخلاقيات مفروضة بالقوة، وهذه العبارة تبين وجهة نظر مؤلف الفيلم ومخرجه في انحيازهما لأخلاقيات تنبع من أعماق الإنسان.
إن السؤال هو كيف نوفق بين آمال الفرد والمجتمع.. الأنا أم العائلة؟
بالنسبة لفرانشيسكا، فهي تعتقد أنه و”حين تقرر المرأة الزواج والإنجاب تبدأ حياتها من جهة لكنها تتوقف من جهة أخرى.”
يذكرنا روبرت كينكايد، في بعض جوانب شخصيته العميقة، باللامنتمي عند ويلسون، وبينما كانت فرانشيسكا تحتاج للجذور يمثل روبرت اللاانتماء وذلك طبيعي بالنسبة لرجل أمضى حياته مرتحلاً بين البلدان: “ارتحت على الطرقات أكثر من كوني في مكان واحد.” فهو لا يطمح لامتلاك حياة، ربما لأنه يعتقد أننا لا نمتلك شيئا في النهاية، أخيراً ترفض فرانشيسكا التخلي عن زوجها ريتشارد وولديها. كتبت في مذكراتها: “أدركت أن الحب لن يطيع توقعاتنا، كانت خفايا الحب طاهرة ومطلقة ما بيني وبين روبرت لم يكن ليستمر لو بقينا معاً وماتقاسمته مع ريتشارد كان سيختفي لو انفصلنا.”
ميراث الماضي
لقد تركت لهما ذكرياتها كتجربة حياة مع وصية: “افعلا ما يلزم لتعيشا سعداء، فهناك الكثير من الجمال.” فأصبح كل منهما ينظر إلى حياته من جديد. كان الابن مهملاً لزوجته، وكانت الفتاة بصدد إنهاء علاقتها لأسباب لا تستحق، كل منهما أخذ يفكر في السعادة التي تفلت من يديه وسيعيد كل منهما إصلاح الأخطاء قبل أن يتعذر ذلك. قبل وفاة فرانشيسكا بسنوات أرسل لها روبرت هدية صغيرة هي رواية تحكي قصة حبهما وقلادة كانت قد أهدتها له ليلة وداعهما.
في الصراع بين الواجب والحب لم يخرج الحب منتصراً إلا فيما ندر، لكن الكلمة الأخيرة -فيما يبدو- تترك له، فقد طلبت فرانشيسكا أن ينثر رمادها فوق الجسر الذي شهد حبها، لقد نذرت حياتها لعائلتها ورغبت أن تهب موتها لحبيبها.
كتبت فرانشيسكا: “في خاتمة المطاف هذا ما يحسن بالفنان صنعه.” وإن فتح خزائن الماضي لا يكشف بالضرورة عن الألماس، لكن عما يفوقه قيمة، فالثروة التي نتركها لمن بعدنا هي تجربة الحياة التي عشناها، عن مغامرات ومكابدات الحياة السرية لكل روح، الخيارات الصعبة واللحظات الفارقة التي لا تأتي سوى لمرة واحدة في الحياة، فنختار التخلي عنها.
في الصفحة الأولى من رواية روبرت عبارة تصف بدقة جوهر حياتنا: “هناك لذة في الغابات المعدومة السبل.”