حين تولد اللذة من الألم والجمال من القبح

326

جواد غلوم /

كم من النفائس والأحجار الكريمة والعطور المنعشة، التي نزهو بها فخراً وامتلاكاً، كانت في الأصل بخسة المصدر، بل وحتى مقززة حالما نسمع بها أو نراها رؤية العين متمثلة أمامنا باعتبارها شيئاً كريهاً ليس ذا قيمة او اعتبار عالٍ. كم من الحجارة وأكوام الأنقاض والمخلفات المهدمة صارت صروحاً عالية وقصوراً عظيمة ومعالم تاريخية سامية ومزارات ومتاحف يقصدها القاصي والداني.
لنتمثلْ ببعض المعادن النادرة والغالية جداً؛ فمن يتصور أن الماس، بألوانه الجميلة المتعددة البريق وصلابته الفائقة، ماهو إلا فحم تقادمَ زمنه دهوراً تحت باطن الأرض حتى صلد!! وأن المرمر الصلب، والناعم الملمس، الممتع شكلاً، الذي نرصفه بلاطاً جميلاً في المباني والصروح والقصور الفارهة، ليس سوى حجارة جبلية صماء مرت بمراحل طويلة زمنياً وتعرضت للضغط سنين طوال وهي تنوء في بطون الجبال.
رائحة العنبر والمسك
وتلك المادة العطرية الأخاذة المسماة بالعنبر، التي تشيع في أجوائنا البهجة والمتعة والرائحة الزكية، ما هي الا قيء قبيح لفظ من معدة حيتان البحر، تفرزه مرارتها من غدة الصفراء على سطح البحر، وحالما يطفو على سطح الماء تنبعث منه رائحة كريهة أول الأمر، تكاد تكون شبيهة برائحة الفضلات البشرية، لكن ما إن تمر عليه فترة زمنية حتى يتغير لونه وشميمه، وتصدر منه -بعد حين من الوقت- رائحة زكية محببة الى النفس، وتزداد نشوة رائحتها أكثر حينما تدعك بمادة كحولية فيتضاعف نشرها وضوعها المحبب الى النفس.
ومادمنا في حديث العطور، فإن خثرة سوداء من دماء الغزال الميت يمكن أن تهبنا قطرات زكية الرائحة من المسك الذي يعد أثمن وأعطر رائحة نشمها، وتتخلل أنفاسنا ببهجة لا نظير لها.
القبح والجمال
كم من الدواء المرير المذاق، والعلقم الذي تصعب جداً استساغته، أعاد لنا الحياة البهيجة والعافية والهناء وأنقذَنا من الأمراض الفتاكة، وجعلنا نشعر بطعم السعادة ونحن نرفل بالصحة وننعم بالشفاء، مع أننا تجـرعْـناه رغما عنا طلباً لحياة أكثر راحة لوفرة العافية وغياب الأوجاع من أجسادنا وأنفسنا.
حقاً أن اللذة وليدة الألم، وكثيراً ماعلمنا القبح ودلنا على مكامن الجمال، فالإنسان لا يعرف قيمة أن يكون سوياً معافى حتى يمرض اولاً ثم يشفى بعدها.. مثلما لا يعرف المرء قيمة الغنى والرخاء والبحبوحة إلا من خلال أيام العوز والفقر والقحط واشتداد الحاجات المادية، التي لا يمكن الاستغناء عنها، كالطعام والشراب والسكن اللائق والاكتفاء من الضروريات.
لم أنسَ، وانا صبي صغير، بدأت مدارك عقلي تتضح وتنمو شيئاً فشيئاً، حينما جلب أبي جهاز الكرامافون قبيل شيوع الراديو، ووضع الأسطوانة الحجَرية فيه، وبدأ بتدويره لتنبعث منه أصوات غنائية شجية لم أسمع مثلها قبلاً فسألته بفضول:
أين لسان تلك الأسطوانة بابا؟؟
فأجابني وهو معجب بسؤالي:
إن هذه الأسطوانة لا تمتلك لساناً وإنما هي مصنوعة من الحجر الأصم.
أدركت حينها أن الحجر تخرج منه أجمل الأغاني وأعذب الألحان وأصفى الأوتار، كما تُبنى منه أرقى القصور وأعلى الصروح حين يحسن استخدامها بترتيب من العقل الإنساني المبدع الخلاق المبتكر .
إبداعات العقل
أعجب كثيراً من سعي الناس باتجاه الأوهام والآمال الكاذبة والماورائيات التي تكون شغلهم الشاغل، بينما تكمن في رؤوسهم عقول خلاقة قادرة على تدوير كل شيء ليصبح جميلاً ممتعاً نافعاً ولو خرج من القاع والأسن والمواد التي تبدو للناظر إليها في غاية السماجة والقذارة، فإبداعات العقل لا حدود لها لو أحسن استغلالها ولقيت تشجيعاً ودفعاً واهتماماً لتخلق من البادية حاضرة، ومن السموم علاجاً شافياً، ومن الأنقاض صروحاً ومبانيَ شاهقات، وربما ناطحات سحاب.
رعاية العقول وتغذيتها بالعلم والتجريب والتنظير غير الميتافيزيقي، والعناية بالأبدان والترويض السليم لها، وانتقاء ما تحتاجه من طعام، نوعاً لا كماً، واعتماد تطهير العقل وقتل جراثيم الخرافة والخزعبلات الغيبية توازي تماماً القضاء على الأوبئة والميكروبات التي تعشش في الأجسام، وتنتج لنا أجيالاً تشيد لنا حضارة سليمة ومبتكرات خلاقة وشعوباً صحيحة معافاة، وهذا ما ننشده لو استمررنا وأردنا ترتيب حياتنا وفق النهج القويم، وهذه هي الثروة البشرية المنشودة التي تصنع كل شيء ممتع ومفيد، بما في ذلك الجنان الخالدة التي يحلم بها قاصرو العقول وذوو الهمم الواطئة.