احمد رامي يكتب عن محمد عبد الوهاب: كان طفلا ببنطلون قصير ويغني عذبيني فمهجتي في يديك
ارشيف واعداد عامر بدر حسون/
كان ذلك منذ ثلاثين عاما.. وكان عبد الوهاب صبياً لا يعدو العاشرة، يلبس بنطلونا قصيراً لا يفتأ يداعب أطرافه وهو يلقي أبياتا غزلية مطلعها: (عذبيني فمهجتي في يديك).
وكان ذلك في مسرح برتنانيا، في فترة الاستراحة بين فصلين من رواية يمثلها المرحوم الاستاذ عبد الرحمن رشدي، وقد اخذني منه أول رؤيته حيرة تتجلى في نظراته الموزعة بين الجمهور المستمع وبين الأنوار الموزعة في القاعة، وقد اعجب الجمهور بصوته الرقيق، واعجب كذلك بجرأته على الوقوف أمام هذا الجمع الحاشد،
وصفق له فازداد حياء، ثم أسدل الستار فذهبت كعادتي الى المسرح أحيي اخواني الممثلين، فاذا بي أرى عبد الوهاب عن قرب واحييه فيرد التحية وهو لايزال مأخوذا من تصفيق المعجبين، وانست اليه لما رأيت من حيائه ومن ضعفه في ذلك العهد فقد كان نحيفا خافت النبرة في حديثه، يسره ان يهتم القوم بأمره، وان يشجعوه على المضي في الطريق التي رسمها لنفسه في مبدأ حياته.
*****
ثم دارت الأيام وأنا لا ازال أرتاد شارع عماد الدين محط الغناء، والتمثيل في القاهرة، وكانت ندوتنا في قهوة الكوزمو، وكان زملائي في تلك الجلسات من الأدباء وأهل الفن.. كنا نتحدث ليلة عن ظهور الموسيقار سيد درويش، وهبوطه القاهرة، واتصاله بالجو الفني في هذا الشارع العتيد، وكان عبد الوهاب يذهب الى تلك الندوة في رفقة اصحابه الذين مهدوا له الاتصال بفرقة المرحوم عبد الرحمن رشدي وجرى ذكر سيد درويش في حضرته، وسمع اعجابنا بذلك الملحن الكبير، فتمنى لو أتيح له لقاؤه وسماعه.. وتمنى فوق ذلك ان يردد شيئا من الحانه. وهبط ندوتنا سيد درويش فقمنا للترحيب به وشاركنا في ذلك عبد الوهاب وتحدثنا عن صوت هذا الصغير فابتسم سيد وعطف عليه، واحبه لما رأى فينا من مظاهر التشجيع له والحدب عليه..!
*****
وانقطع عبد الوهاب الى سماع سيد وأخذ عنه الكثير وظل يرافقنا في السهرات التي كنا نحييها في منازل الأصدقاء واخصها منزل الصديق الاستاذ عبد الله شداد في الزيتون، حيث كنا نقضي الساعات الممتعة.. جو ريفي جميل نطلق فيه العنان لشياطين الفن والموسيقى والطرب. وعرض لي السفر الى باريس للدراسة مدة سنتين، فكان من فضل سيد درويش علي أن احيى لي ليلة سفري غناء وتوقيعا وكان معنا في تلك الليلة عبد الوهاب وهو أسعد ما يكون لسماع ذلك الفنان الساحر، والانتباه الى كل ما يلقيه.
وسافرت الى باريس.. وفي سبتمبر عام 1923 وصلني نعي سيد، فشق علي كثيراً وحزنت لفقد ذلك المجاهد الذي راح في أول الموقعة بين القديم والحديث، ثم عدت بعد سنتين التمس اصدقائي أحباب سيد واتحدث معهم عن أيامه الأخيرة، فعلمت ان عبد الاوهاب أنقطع اليه بعد سفري وانه أخذ عنه، واشترك معه في الكثير من الحانه وشرب من علمه وفنه، وانه يستطيع أن يلقي ألحان ذلك الموسيقار العظيم، حتى لقد قام اثناء مرضه الاخير بتأدية دور من ادواره في احدى رواياته، وقابلت عبد الوهاب فاذا البنطلون القصير قد طال واذا ذلك الحياء القديم قد تفتح عن رغبة في فهم كل شيء. واذا ذلك الانقطاع القديم عن الناس قد تحول الى اندماج في كل وسط فني، وانضم عبد الوهاب الى معهد الموسيقى الشرقي فلقى من أقطابه كل تشجيع وحدب، وتعهده أهل الفن في ذلك المعهد حتى اصبح يتقن العزف على العود، وحتى بدأ يحيي بنفسه بعض الليالي الجميلة في منازل اولئك الاحباب الأقدمين.
*****
وفي تلك الأيام لقى شوقي رحمه الله عبد الوهاب، فعطف عليه ورعاه وشجعه وعرفه بالشخصيات الكبيرة وصحبه الى الأطباء، واقام له كرمة بن هاني ليالي لا تنسى، ثم اغدق عليه من شعره وزجله فبدأ يلحن له وبدأ ينشر ادبه على الناس الحانا بديعة.
وظهر في الأفق لون جديد من الغناء في نوع الاوبريت الذي كانت تقوم به السيدة منيرة المهدية، بعد موت المرحوم الشيخ سلامة حجازي. واتصل عبد الوهاب بالسيدة منيرة ولحن لها فصلا كان ينقص احدى روايات سيد درويش وقام بالتمثيل امامها، ونجح في هذا المضمار نجاحا فتح اعين الناس وآذانهم فابتدأ يشتهر وانقطعت الى عشرته سواء أكان ذلك في صحبة شوقي بين دور السينما ومعهد الموسيقى وكرمة بن هاني.. أم كان في داري بين أيك النخيل في بركة الفيل.. واندمجنا معا.. وألفت له ولحن لي، حتى كان يزورني فأعطيه العود ويعزف وينطلق فيوحي الي فانظم، واناوله ما انظم مقطعا مقطعا.. فنخرج من هذه الجلسات باغنيات كاملة نظما وتلحينا..
*****
وذات يوم أفضى الي برغبته في أن يخرج الى الجمهور ويكون فرقة موسيقية ويغني في المسارح والحفلات العامة.. فسألته عن أفراد تخته الموسيقي فقال: (من خيرة من أخرج معهد الموسيقى) قلت(على بركة الله)..
وظهر عبد الوهاب واستقبله الجمهور أول مرة بشيء من التحفظ.. ولكنه ثابر وثابر حتى جاء عليه حين كان يصرف من جيبه ولا يحصل قدر ما يصرف، وهنا تجلى صبره في سبيل الهدف ومازال بالقوم حتى فطنوا الى موسيقاه وانسوا الى غنائه، وحتى اقبلت شركات تعبئة الاسطوانات على الاتفاق معه.. وسجل لي مقطوعات كثيرة لا تزال تستهوي الجمهور الى الآن، وما كان اعظم ثقته بنفسه.
اذ يعد لحنا جديدا ويجلس الى يعزف على عوده المنفرد فيتجلى ايمانه بفنه، ويتجلى كذلك ابداعه واحساسه بما يقول.
1950