نظام مالي عالمي جديد تدشنه الصين
مصطفى السعيد/
خطوة الصين بتأسيس بنك دولي ستكون لها تداعيات مؤثرة على النظام المالي العالمي، بالرغم من بدايتها التي تبدو متواضعة بتعاونها مع أربع دول هي إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة وتشيلي، بالإضافة إلى هونك كونك، ومساهمة كل منها برأسمال قدره 15 مليار يوان، تعادل نحو 2,2مليار دولار، لكنها ستكون مدعومة باحتياطيات صينية ضخمة وفق إعلان البنك المركزي الصيني، ما يتيح للمساهمين الحصول على قروض تفوق مساهمتها بكثير.
هو نظام مشابه لصندوق النقد الدولي، لكنه يختلف في عدم تدخله بفرض شروط سياسية على المقترضين، مثل فرض خصخصة المشروعات المملوكة للدولة، أو رفع الدعم عن الفئات الأكثر احتياجاً، أو التدخل لتعويم العملات المحلية، أو رفع أسعار بعض السلع أو تصفية مشروعات، وتكون لكل دولة حرية التصرف في التمويل وفق دراسات الجدوى الاقتصادية، ويمكنها تمديد فترة السداد عند تعرضها لأي تعثر، مع فائدة منخفضة للغاية لا ترهق الدولة المقترضة.
الخطوة الصينية تدشن صندوقاً دولياً منافساً لصندوق النقد الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية، وكان له دور كبير للغاية في التأثير على النهج الاقتصادي والسياسي للعديد من دول العالم، والمتهم بأنه أحد أهم أدوات الرأسمالية (النيوليبرالية) التي استغلت تعثر العديد من الدول بفرض سياسات مالية واقتصادية أوقعتها في أسر الرأسمالية العالمية النبوليبرالية، وأدخلتها في دوامات من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. وهذا لا يعني أن البنك الدولي الجديد بقيادة الصين هو جمعية خيرية تمنح القروض بلا حدود أو ضمانات أو أهداف تحقق للصين بعض المكاسب، فالصين التي تحظى بأكبر الفوائض المالية في العالم، بفضل ميزان تجاري يحقق فوائض تصل إلى 700 مليار دولار سنوياً، والشريك التجاري الأول لأكثر من 140 دولة، تريد ترجمة قوتها الاقتصادية، وأن تحقق هدفين رئيسين: الأول هو تدويل عملتها (اليوان) لتنافس الدولار الأمريكي، بل تتفوق عليه، لأن لديها كل عوامل النجاح في السباق مع الدولار، فالاقتصاد الصيني، وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي الصادرة عام 2020، ناتجها الإجمالي الحقيقي المستند للقوة الشرائية للعملة الصينية، يتفوق على الناتج الإجمالي الأمريكي بنحو 3 ترليونات و800 ألف دولار، أي أن الاقتصاد الصيني سبق منافسه الأمريكي منذ 8 سنوات على الأقل منذ هذا التاريخ.
ويتمتع اليوان بغطاء ذهبي يضمنه البنك المركزي الصيني، بينما تخلى الدولار منذ خمسة عقود عن الغطاء الذهبي، واعتمد على أنه العملة المرجعية لسوق النفط، ولكثير من البنوك المركزية في العالم كعملة تتمتع بالثقة، وتلك الثقة تعتمد على قوة الاقتصاد الأمريكي الذي كان يحتل المقدمة منفرداً، وكان يمثل 45% من الناتج العالمي، لكنه تراجع كثيراً في العقدين الأخيرين إلى أقل من 19%، بينما كان الناتج الإجمالي للصين لا يزيد عن 3،5% من الناتج العالمي عام 1997، ليرتفع بوتيرة عالية وسريعة، ويصل إلى 14% عام 2015، ليتجاوز حاليا الناتج المحلي الأمريكي بنحو 4% وفقا للقوة الشرائية، كما تراجعت قيمة الدولار أمام عملات رئيسة، ما جعل الشكوك تحوم حول مستقبل الدولار، وبدأ العديد من الدول بخفض احتياطياتها من الدولار، والاعتماد على سلة عملات بالإضافة إلى الذهب، ولاسيما في ظل الاعتماد الأمريكي المتزايد على طباعة كميات أكبر فأكبر لتغطية العجز الهائل في الميزان التجاري، والمقدر أن يقترب من ترليون دولار هذا العام وفقاً لمؤشرات الأشهر الأولى من العام الحالي. وأساءت الولايات المتحدة التصرف بالإفراط في فرض العقوبات الاقتصادية كوسيلة لتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية، وأحيانا كبديل للحرب العسكرية، وكانت نتيجة هذا الإفراط أن تقلص حجم تداول الدولار عالمياً، وشرعت مجموعة من الدول بالتعامل بعيداً عن الدولار الأمريكي بالتبادل السلعي أو عبر مسارات لا تمر بمنظومة (سويفت) التي تهيمن عليها الولايات المتحدة الأمريكية، والمتحكمة في تبادل الحوالات المالية بين الدول.
هكذا ستواجه الولايات المتحدة ضربات في أهم ثلاث أدوات تتحكم بها في النظام المالي العالمي، وهي: مكانة الدولار، ومنظومة سويفت، وصندوق النقد الدولي، مع نشوء نظام مالي عالمي جديد يواكب التعددية القطبية التي أصبحت واقعاً، لاسيما مع نشوب الحرب الأوكرانية، واعتقاد الولايات المتحدة وحلفائها أن تدمير الاقتصاد الروسي أمر سهل المنال، فإذا بعشرات الدول المشاركة في الحرب الاقتصادية على روسيا تدفع الثمن الأكبر وتعاني من معدلات تضخم متزايدة ولا تستطيع السيطرة عليها حتى الآن، وجاءت معالجتها برفع سعر الفائدة في البنوك لتصيب الاقتصاد الغربي بالركود إلى جانب التضخم، ما فاقم مخاطر الأزمة الاقتصادية في الولايات المتحدة وأوروبا.
كما أن من المتوقع أن تنضم الكثير من بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية إلى الصندوق الدولي الذي دشنته الصين، بالإضافة إلى روسيا، الحليف الاقتصادي والسياسي والأمني للصين، وتستفيد تلك البلدان من قروض أقل كلفة وتدخلاً من صندوق النقد الدولي، وحتى البلدان التي لن تنضم ستستفيد من اضطرار جهات التمويل الغربية إلى خفض شروطها وضغطها على البلدان الأكثر احتياجاً للقروض، وسيصبح العالم أمام مشهد جديد فيه منظومات مالية تعددية تجارية في عالم متعدد الأقطاب تتراجع فيه هيمنة الرأسمالية النيوليبرالية.