القروض الصينية تفتح أبواب النظام العالمي الجديد

374

مصطفى السعيد /

توسعت الصين في تمويل ميزان المدفوعات للدول المتعثرة، وهو توجه جديد للبنوك الصينية التي كانت تمنح القروض للمشروعات، فما هي دوافع الصين إلى هذا التوجه؟ وهل يستمر ذلك طويلا أم أنه حالة طارئة؟ وما هي تبعات هذا التوجه على البلدان التي تتعرض لأزمات مالية؟
إن قائمة البلدان التي تمدها البنوك الصينية بقروض تستهدف حل الأزمات الناجمة عن الخلل في ميزان المدفوعات، اتسعت بشكل سريع لتضم دولاً في قارات آسيا وإفريقيا وأميركا الجنوبية، لاسيما بعد الأزمة العالمية التي سببها تفشي جائحة كورونا وما واكبها من حالات إغلاق وشلل في قطاعات اقتصادية عدة، على رأسها السياحة وقطاعات خدمية وصناعية تأثرت بالخلل في سلاسل التوريد. وكانت البلدان النامية أكثر من عانى، لهشاشة بناها الاقتصادية، وانخفاض احتياطياتها النقدية، ما يجعلها أكثر عرضة لهزات عنيفة، وأبرز الأمثلة هو ما حدث في سريلانكا التي كانت تعتمد -إلى حد كبير- على قطاع السياحة وسفر العمالة إلى الخارج، إذ أنها وعند التراجع الحاد في عوائد هذين المصدرين لم تتمكن من شراء النفط، وذلك لخلو الخزانة العامة من أية احتياطيات نقدية. وهناك أمثلة أخرى، وإن كانت حدتها أقل، تعرضت لها بلدان أخرى سارعت بطلب تمويل عاجل من صندوق النقد الدولي، وقد وافق الصندوق الدولي على البعض منها، وتأخر في طلبات أخرى، لكنه قدم قائمة مطالب تتعلق بإصلاحات رآها ضرورية لعلاج الخلل في ميزان المدفوعات، وعلى رأسها دائماً خفض الإنفاق الحكومي، بما فيه تقليص عدد الموظفين في الهيكل الإداري، وبيع المشروعات المملوكة للدولة، وإلغاء الدعم للسلع وعلى رأسها الطاقة، وهناك مطالب أخرى قد تتضمنها شروط الصندوق تمس جوهر سياسات الدول المقترضة، منها ما يتعلق بما تسميه حقوق الإنسان، أو بيئة الاستثمار، بما يجعل صندوق النقد الدولي موجهاً، أو على الأقل مؤثراً، على خيارات وتوجهات الدول المقترضة.
وإذا كانت هذه غايات الصندوق الدولي الذي تتحكم فيه الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون والآسيويون، فما هي غاية التوجه الصيني نحو إقراض الدول المتعثرة، التي تعاني أزمات مالية في موازناتها العامة؟
هناك دوافع صينية عدة، أهمها أن لديها فوائض مالية ضخمة، إذ أنها صاحبة أكبر عوائد بالميزان التجاري في العالم، أكبرها الفائض من تجارتها مع الولايات المتحدة وأوروبا، فهي الشريك التجاري الأول لكل منهما، وتحقق فائضاً بمئات المليارات مع كلا الجانبين على ضفتي الأطلسي، فقد سجل الفائض التجاري الصيني في شهر شباط من العام الماضي 115,9 مليار دولار، بزيادة تتجاوز 16 مليار دولار عن المتوقع. وتشير بيانات بنك الشعب الصيني أن احتياطيات النقد الأجنبي في الصين خلال الربع الأخير من العام الماضي بلغت 3 ترليونات و218 مليار دولار، وهي أكبر احتياطيات للنقد الأجنبي في العالم. كما أن الصين هي أكبر المشترين لسندات الخزانة الأميركية وغيرها من دول أوروبا، وتحتل البنوك الصينية المراكز الأربعة الأولى في العالم، إذ يحتل (البنك الصناعي والتجاري الصيني) المركز الأول عالمياً بحجم أصول بقيمة 4,2 ترليون دولار، يليه (بنك التعمير الصيني) ثاني أكبر بنك في العالم بحجم أصول بقيمة 3.3 تريليون دولار، ثم (البنك الزراعي الصيني) بحجم أصول يبلغ 3.2 تريليون دولار، ثم (بنك أوف تشاينا) بأصول تزيد على ثلاثة ترليونات دولار، كما أن هناك بنوكاً صينية أخرى لديها أصول ضخمة.
من هنا يتضح أن الفوائض المالية الصينية الضخمة فاقت الهدف الرئيس المتمثل في التغلب على أية أزمات طارئة، وأصبح بمقدورها أن توجه تلك الفوائض نحو بلدان أخرى، وكانت الوجهة الرئيسة لتلك الفوائض المالية تتجه إلى السندات الأميركية وشراء الأسهم في البورصات العالمية، لكن الحرب الروسية الأوكرانية، التي أعقبها فرض عقوبات على روسيا وتجميد الأصول الروسية في الولايات المتحدة وأوروبا والحلفاء في آسيا وأستراليا، جعلت الصين تراجع وجهة أموالها، وزاد من تلك المخاوف تفجر الأزمة حول تايوان، وكأن الصين على حافة أزمة مماثلة لما حدث مع روسيا.
لذا وجدت الصين أنها بحاجة إلى شبكة من الشركاء العالميين في كل قارات العالم، سواء لأنها تطمح في إقامة منظومة مالية وتجارية بعيدة عن قدرة الولايات المتحدة على التدخل فيها، أو رغبة في تنويع شراكاتها عبر العالم، التي كانت (مبادرة الحزام والطريق) أحد أهم مشاريعها، ولهذا رأت أن توجه جزءاً مهماً من فوائضها المالية لحل أزمات الدول التي تعاني من اختلالات في موازناتها، لأنها أولاً ستفك ارتباط تلك الدول بالولايات المتحدة وأوروبا التي تسيطر على المؤسسات المالية الدولية وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي، وثانيا أنها ستقدم نفسها بأنها المنقذ الأكثر أمناً وأكثر قدرة، والأقل تدخلاً في شؤون تلك الدول، بالإضافة الى أنها ستحقق مكاسب اقتصادية، وتعزز علاقاتها التجارية مع تلك البلدان، وبذلك تكون قد حققت مكاسب اقتصادية وسياسة عديدة في وقت واحد، وقد أثبتت أنها جديرة بأن تصبح القوة الاقتصادية البديلة والآمنة، وأن نظاماً عالمياً جديداً قد بزغ.