بين هدوء المدن وضجيجها

2٬661

عارف الساعدي/

كنتُ أتصور إنَ ضجيج بغداد لا يدانيه ضجيج في عواصم الدنيا كلها، فالازدحامات المتتالية، وصياح الباعة في كل مكان، والبيع في أماكن غير مخصصة للبيع، والكراجات غير النظامية، وووو.. كل هذا صنع مناخاً لهذه العاصمة، التي كنت أظنها أنَها ستحصل على المركز الأول في الضجيج، حتَى زرتُ “القاهرة” وتسكعت بأحيائها القديمة، وحواريها، وأزقتها، وأدمنت صخبها، ولا زمنيتها، حيث يرتبط النهار بالليل، من دون أنْ تشعر أو تحس به، لأنَ الناس لا تهدأ لا ليلاً ولا نهاراً.

تبقى حركتهم متواصلة في كل وقت، ربما استغربت أنا ومن معي من الأصدقاء في أول يومين هذه الأجواء الصاخبة، ولكنْ بمرور الوقت أدمنَا هذا الضجيج، ورحنا نتعايش معه، بل نبرره، ونلتذ به مرات، حتَى أنَنا حين رجعنا إلى بغداد، شعرنا إنَ بغداد هادئةٌ جداً، لا صخب، ولا ضجيج، ولا باعة متجولين، ولا تجاوزات، حتى أنَ أصدقائي حين وطأت أقدامنا بغداد، ومشت بنا السيارة في شوارعها، بدأنا نتلفت بعضنا للبعض الآخر، مستغربين أهذه بغداد؟ أم غيرها؟ أهذه المدينة التي تركناها صاخبة؟ ما بالها وهي تلتف بعباءة الهدوء والسكينة؟

والحقيقة إنَها لا هدوء ولا سكينة، إنِما صورة “القاهرة” تلبستنا، فهدأتْ كلُ المدن بعيوننا، وفي الشهر نفسه الذي ذهبت فيه إلى “القاهرة” وعدتُ إلى بغداد، دُعيتُ إلى معرض الكتاب في “مسقط” فذهبتُ إلى هناك، ووجدت مدينةً مستلقيةً على البحر، تُحيط بها المياه من كل مكان، وتلتف الزهور على شوارعها، وأرصفتها، هادئة حدَ الملل، ووديعةٌ حدَ الحب، مدينةٌ تنساب كما تنساب أغاني فيروز في الصباح، لا تخدش أحداً، ولا تسمع ضجة، حتى أسواقها القديمة وأنت تمشي فيها، يهمس الناس همسا، مسقط علمت حتى الوافدين إليها من عمالة خارجية هدوء الحديث ودفئه، من أين تأتي هذه المدينة بكل هذا الهدوء؟ وهي محاطةٌ بالمياه، وبالعرب، والفرس، محاطةٌ بالضجيج، وبالصراعات، وبالحروب، وبالمذاهب، والطوائف، هل الشخصية العمانية شخصية استثنائية في زمن غير استثنائي، لا تحب الإنقلابات، ولا الثورات المزعومة، ولا الأحزاب التي جرَت الويلات على تلك المدن الضاجة والصاخبة، والتي أنتجت قادة مهووسين بالانقلابات، وبالثورات، وبالحروب الطائفية.

كيف يمكن للمدن الصاخبة أنْ تهدأ هل هناك علاج مهدئ لها تشربه؟ أو حقنة تحقن بها عضلتها فترتخي قليلا، لأنَها متشنجةٌ طول الوقت، من يهدئ هذه المدن؟ أليسوا اطباؤها هم المسؤولون عن هدوئها؟ فقد مر وقت طويل وهي بلا نوم.