موجة أغاني العنف ذائقة متهالكة نتيجتها توحش الأجيال

312

إياد السعيد /

لم أعتد سماع هذه الأغنيات التي يطلق عليها العديد من التسميات، وربما لم نجد إلى الآن توصيفاً يليق بها سوى أن مختصرها (أغنيات العنف)، لمؤدين برزوا صدفة وبتسارع حتى سادوا. كلماتها تحوي قائمة من الأسلحة والأعراف العشائرية والدماء والولاء لفرعيات عرقية وقومية وحزبية، وتلميحات إلى ازدراء الآخر.
ألحانها تعتمد (الردح والدبج) الرتيب بإيقاع واحد يتداخل مع صوت الرصاص أحياناً. دهشتُ لتفاعل رجل يربو سنّه على الستين مع إحدى هذه الأغنيات وهو مسرور ومنتعش، والغرابة هنا أنني من فئته العمرية، لكني لم أستسغها، فهي تزعجني وتريحه وتقرفني وتنعشه، مع أننا عشنا –اجتماعياً- في ظروف وبيئة واحدة، والعجب كل العجب من هذه الثنائية.
للأسف، فقد انتشر هذا الصنف من الغناء واستحوذ على ذائقة الشباب بالأخص، وبشرائحهم المختلفة، متعلمين كانوا أم أميين، وبفئات عمرية مختلفة أيضاً، أطفالاً كانوا أم مراهقين وكباراً، من الرجال والنساء. قد يكون السبب هو الوضع الثقافي والاجتماعي المتردي، وانتشار المواد التافهة وتسيدها وسائل التواصل الحديثة، ما حبب لهذه الأجيال منطق القوة والتعنيف والسلاح والعشيرة والكثرة. الحديث عن مستوى التهافت الذي هبط إليه المجتمع يتطلب المرور بالذائقة الفنية والبحث فيها، فقد وصلنا إلى مستوى لم يكن أحدنا يتوقعه.
مفردات وضيعة جداً لا تليق بالصفحة ولا بالذاكرة لكي نعرضها هنا أمام القارئ، تشبعت بها هذه الأغنيات التي تعزف بزعيقها في الأعراس والسفرات، وحتى حفلات التخرج الأكاديمي، ولكن لابد من تسطير بعضها هنا للضرورة لكي نطلعكم على حجم التردي وانحدار الأخلاق في هذا الركن المهم من الفن الشعبي. خذ مثلاً : (علموني عالمشروب – عالشر نمشي وننطي فلوس – ناخذ خاوة – عيّالة – شايل غدارة –ودّي كوامة – فصل – بيكيسي وبهبهان – اليوم تصير مكاصب – سبع طرات أطرّه)، فهل هناك أبشع وأعنف من هذه المفردات؟
اتهمتُ -من جانبي- بالدرجة الأساس شعراء الأغنية بالمباشر، لأن الفكرة تبدأ من الكاتب، فكان رد الشاعر الغنائي عدنان هادي: “الشاعر والملحن متهمان، نعم، لكن من هؤلاء الجدد الذين يبغون الشهرة، فليس هناك شاعر او ملحن ملتزم ذو تاريخ وسمعة محترمة يشارك في هذا، فالأسباب واضحة، أولها التردي وتلوث الأفكار بالانتماء القبلي قبل الوطني، والوضع الاقتصادي والبطالة، فلا شيء يشغل الشاب الآن، أما علاجها فهو بسن قانون قوي يحد منها، أما الشاعر فهو جزء من هذا التردي وعلينا واجب التغيير بشرط أن يكون البلد مستقراً آمناً لكي يعود الشاعر للكتابة عن الوطن والتقاليد الجميلة فيه وعن الحياة والمحبة والاخلاق.”
أدرتُ بوصلتي ووجهت الاتهام نحو الملحن هذه المرة، فكان رد عضو مجلس نقابة الفنانين العراقيين الموسيقار سامي نسيم: “إذا اردت أن تعرف حظ بلد ما من المدنية فاستمع الى موسيقاه، هكذا قال كونفشيوس، وكلما تسامت الموسيقى قل قرع الطبول فيها، ومثلما أكد الفلاسفة فإن الفن هو مرآة ذات الشعوب، أما ما يحصل الآن من تردٍ في ذائقة المجتمع الفنية، ومنها الموسيقية، فهو مرتبط دون شك بانهيار منظومة الأخلاق والقيم الأصيلة، فعكسته الأهزوجة التي تسمى عبثاَ أغنية وفناً، ولذلك أسباب عديدة، مرضية وأخرى عبثية، هي نتيجة لواقع مضطرب بدأ منذ الحروب وعسكرة المجتمع إلى قمع المثقف والرأي الحر، إلى التأثر بنفايات وافدة طارئة، أصبح لها جمهور شاذ ينسجم مع ذات الطروحات المشينة، أمثلة لها أغنيات عمرو ذياب ومحمد رمضان ومحمد منير وسعدون الساعدي وغزوان الفهد، وكثير من الأسماء المزرية التي شكلت حضوراً تدميرياً واضحاً، وقاد ذلك بعض أشباه الشعراء والملحمين -الميم مقصودة- وأمطروا الأسماع بوابل من التفاهات بأشباه مطربين رفضتهم نقابات المهن الموسيقية العربية، وهناك مؤسسات أهليه ومنتديات تدعمهم مستغلة المراهقين ومدمني المخدرات لهذه الأغراض الكارثية.”
“كنا نحلم بعد 2003 بعد العزلة بالانفتاح على فن راقٍ يعكس ذائقة شعبية ومجتمعية تبني ولا تهدم.. كنا ننتظر أغاني بمستوى: (حاصودة – حمد يحمود – إيدي بيدك عالمساحي)، من أجل بث روح العمل وزراعة الأرض، لكن يبدو أن الموجة أقوى من طموحاتنا، فهي عربية وليست عراقية فقط، وتستطيع عزيزي القارئ أن تشاهد ذلك من خلال النتاجات العربية في الفضائيات إذ ولدت قلقاً مؤرقاً مستداماً للواعين والمثقفين.”
التساؤلات تبقى مشرعة أمام الجميع: من يتصدى لإعادة الذائقة إلى منصتها؟ من المسؤول؟ ماهو دور النخب الموسيقية والنقابية؟ ما هي حدود مسؤولية هيئة الإعلام والإتصالات؟ أين الناقدون؟ أين البرامج التلفزيونية التي تنتقدهم علناً؟