الفنان الفرنسي إيفان إرهيل: “كنوز بلاد مابين النهر ين” ليس فيلمي الأخير عن العراق

662

ز ياد جسام /

لطالما حلم وتمنى زيارة مهد الحضارة والمدن الأولى التي شيدتها البشرية، إذ قرأ عنها الكثير حتى أصبحت لديه رغبة كبيرة في أن يشاهد هذا العراق باعتباره الأرض التي مازالت تحتفظ بأجزاء كبيرة من حضارتها كأطلال المدن الأثرية في مدن سومر وبابل وأكد وغيرها.. وقد تحقق حلمه فعلا حين وطأت قدماه هذه الأرض للمرة الأولى في عام 2016.
في حديث خص به مجلة “الشبكة العراقية” يقول الفرنسي “إيفان إرهيل” الذي يعد واحداً من مئات، إن لم نقل آلاف المعجبين بالعراق وحضارته التي شع نورها على العالم منذ آلاف السنين: “بعد عناء تمكنت من الوصول الى هذه الحضارة وتجولت بين ثناياها، بل غصت في أعماقها. فقد قدمت الى العراق للمرة الأولى عام 2016، وباعتباري إعلامياً ومصوراً ومخرجاً، فقد كانت برفقتي معدات التصوير لأقوم بتنفيذ الفيلم الوثائقي الذي كتبته وصورته وأخرجته، كان معي أيضاً الشخصية الرئيسة في الفيلم د. جواد بشارة.”
يسترسل إيفان في حديثه قائلاً: “لقد فوجئت جداً بالترحيب الاستثنائي الذي تلقيناه، سواء من قبل المؤسسات الرسمية المعنية أو من جانب السكان، ففي ذلك الوقت احتل تنظيم داعش الإرهابي ثلث أراضي البلاد وصار يرتكب الفظائع في كل يوم، حقيقة أني شعرت بالحرج قليلاً لأنني رغبت في إنقاذ تراث الإنسانية، إنقاذ الحجر، بينما يموت الناس في كل يوم كضحايا للإرهابيين.”
وعن عمله، الذي تزامن مع أقسى هجمة على العراق وحضارته من قبل المجاميع المسلحة الخارجة على القانون أو ما يسمى داعش، يقول: سألت العراقيين عن شرعية توجهي، فأجابني العديد منهم بجملة ذكية وهي: “نحن مثل الشجرة، يمكنك قطع أوراقها وأغصانها، ولكن إذا قطعت جذورها فلن تعود هناك شجرة.”
ويكمل حديثه عن معدات التصوير التي جاء بها: “لقد أثرنا الكثير من الفضول أيضاً لأن لدينا ماسحات ضوئية ثلاثية الأبعاد، وقبل كل شيء الكاميرات وأقنعة الواقع الافتراضي التي جربناها مع السكان المحليين، التي كانت مسلية للصغار والكبار على حد سواء. تجولنا -أنا وفريقي- في جميع أنحاء البلاد، بدءاً من الجنوب حيث لم يكن داعش يمثل تهديداً، مروراً بأور، وأريدو، وأوروك، وكذلك الأهوار التي لم أكن أعرف بوجودها من قبل، وانتهاء بكردستان، حيث اكتشفت الاستقلال الذاتي وثراء التراث الأثري. أخيراً، تابعنا الجيش العراقي في كفاحه لمحاربة داعش ووثقنا المواقع التي تحررت من سطوة هذا التنظيم الإرهابي: نمرود، متحف الموصل، أو الأنفاق التي حفرها داعش تحت مسجد النبي يونس في الموصل.”
وهنا تحدث إيفان بحسرة عن هجمات داعش التي طالت الآثار، وقال: كانت صدمتي شديدة إثر تدمير مواقع نمرود ومتحف الموصل الأثرية في ربيع 2014 على يد عصابات داعش الإرهابية، كنت أبحث عن طريقة ما للتصرف والتحرك، لكنني لم أكن متخصصاً في التراث ولا في السياسة أو في العلوم العسكرية، لقد أنتجت أفلاماً خلال اجتماع ودي، قال لي أحد الأصدقاء الذي اشترى للتو ماسحاً ضوئياً: “إنه لأمر مخز، لو كنا قد مررنا قبل ساعات قليلة، لكنا احتفظنا بصور ومشاهد دقيقة لهذه الكنوز التي اختفت اليوم.” وهو يقصد بالماسح الضوئي ذلك الجهاز الحديث الذي يقوم بتصوير القطع الأثرية بشكل ثلاثي الأبعاد وبدقة متناهية بالحجم الطبيعي..
أضاف إيفان: “كان هذا ما أيقظني وفجر في ذهني مشروع حفظ وإعادة ترميم التراث العراقي المدمر، بدأت في كتابة مسودة مشروع من أجل تمويل رحلتي إلى العراق، في البداية غادرنا فقط مع ماسح ضوئي وكاميرا سينمائية، ومن ثم أصبح المشروع فيلماً طويلاً.”
أما عن الحرب التي شاهد دخانها يغطي بعض المدن فقال: “على الرغم من أنني كنت أتجنب دائماً الاهتمام الشديد بالحرب عن قرب، إلا أنني فتنت بكتيبة اللواء نجم الجبوري قائد عمليات الموصل آنذاك، التي قضينا معها عدة أسابيع في الثكنات، لقد أغوتني، على عكس الكتائب الأخرى، يبدو أن هذه الكتيبة قد تم تشكيلها –صراحة- لتمثيل العراق بكل تنوعه الديني: الشيعة والسنّة والتركمان والإيزيديين والمسيحيين. كانوا كلهم حاضرين فيها، لقد صورتهم، وعدت إليهم بعد نهاية الحرب لتكملة تصوير فيلم عن كيفية تحولك من آلة حرب إلى جندي لحفظ السلام.”
وجود الفرنسي إيفان بالعراق في فترة شهر محرم منحه فرصة للتعرف على الشعائر الحسينية وتفاصيلها، إذ قال: “دُعينا لحضور فريضة زيارة الأربعين إلى كربلاء، هنا مرة أخرى شعرت بالذهول: كيف لي أن أتجاهل وجود هذا التجمع الهائل لعشرات الملايين من الناس في بلد مثل العراق! لقد أغرتني أجواء هذا التجمع المحزن، لكن السلمي، وكرم المضيفين، مرة أخرى قمت بتصوير فيلم تتبعت ورافقت فيه عائلة شيعية فرنسية تقوم بالزيارة إجمالاً، شاركت ثلاث مرات في زيارة الأربعين ومرة واحدة في عاشوراء، وقمت بالمشي سيراً على الأقدام مع فريقي من النجف إلى كربلاء مع كامل معدات التصوير وتناولنا الطعام والنوم في المواكب، كانت تجربة لن أنساها أبداً.”
يتذكر إيفان: “منذ نهاية عام 2017، كنت حزيناً بعض الشيء لرؤية الوحدة الوطنية التي تشكلت ضد داعش قد اختفت بسرعة، وشعرت أن مكونات المجتمع المختلفة عادت بسرعة إلى صراعاتها المعتادة. لكنني لا أتعامل مع السياسة أكثر من تعاملي مع الحرب، لذلك قضيت الكثير من الوقت مع أهل الموصل لفهم خصوصيات هذه المدينة المختلفة جداً عن المدن العراقية الأخرى، إذ نشعر داخل جدران هذه المدينة بهوية راقية، تفخر باختلافاتها وتعشق مدينتها، شعرت أيضاً بالصدمة التي عانتها المدينة من جراء احتلال تنظيم داعش، كل شخص قابلته كان قد فقد قريباً له، كذلك تأثرت بروح التضحية التي جعلتهم يقبلون بتدمير المدينة القديمة باعتباره السبيل الوحيد للتخلص من داعش.”
بعد الانتهاء من فيلمه “كنوز بلاد ما بين النهرين” الذي عُرض على شاشتي التلفزيون الفرنسي والتلفزيون الألماني، واصل الفرنسي إيفان المجيء إلى العراق، حيث شعر أن عمله هنا لم ينته بعد، فأنتج للعديد من المخرجين العراقيين الشباب الذين يرغبون في التعبير عن أنفسهم من خلال الأفلام الوثائقية أو السينما، كما شارك في لجنة تحكيم مهرجان بابل السينمائي للشباب.
وعندما سألناه عن مشاريعه المقبلة في العراق قال: “اليوم أقوم بتطوير مشروع آخر دائماً لصالح الحفاظ على التراث العراقي، لدي انجذاب طبيعي لقضايا التراث عموماً، ولكن في العراق، للتراث أهمية خاصة. في هذا البلد جرى استخدام التقسيمات الثقافية لتأليب العراقيين بعضهم على بعض، لكن مع ذلك، هناك شيء واحد يوحدهم جميعاً، وهو أن يكونوا ورثة مخترعي الحضارة قبل 5000 عام، الذين ندين لهم بالكتابة والقوانين والبنوك والطب وتقسيم الوقت وأشياء أخرى كثيرة تستند عليها الحضارة البشرية.. مع مشروعي الجديد، آمل أن أساهم في بث روح التسامح ووحدة هذا البلد الذي أحببته. مشروعي الجديد سيتيح فرصة لتدريب العراقيين في الحفاظ على التراث، بمجرد تأهيلهم وتدريبهم، سيكونون قادرين على جمع البيانات في جميع أنحاء البلاد وتعويض نقص الوثائق في هذا البلد الذي يعد متحفاً في الهواء الطلق الذي كانت 3 ٪ فقط من المواقع البالغ عددها 30000 مواضيع لدراسات متعمقة، ستكون هذه فرصة لتوثيق التراث العراقي للعراقيين ولبقية العالم.”