مجلس الأمن القومي الأمريكي يتبرأ من بايدن
مصطفى السعيد/
أسرع مجلس الأمن القومي الأمريكي ليصحح تصريح الرئيس بايدن الذي قال فيه “سنحرر إيران”، ليؤكد أن الأمر لا يعدو تأييداً للمظاهرات في إيران، ولم ينتظر مجلس الأمن القومي التوضيح الذي أدلى به المتحدث باسم البيت الأبيض في وقت لاحق، الذي أكد فيه نفس المعنى.
ولم تكتف وزارة الخارجية الأمريكية بذلك، بل اتصلت بالخارجية الإيرانية عبر قنوات دبلوماسية أوروبية لتوضح أن الرئيس بايدن لم يقصد أن الولايات المتحدة تنوي التدخل في إيران، وأن التصريج جاء في عجالة أثناء حضور الرئيس تجمعاً اتخابياً الخميس الماضي شارك فيه معارضون إيرانيون، وكانت إشارته لهم بأنه يؤيد المظاهرات فقط. لكن لماذا هذا التحرك السريع لكل تلك المؤسسات لنفي أي تفسير لنية الولايات المتحدة التدخل لـ “تحرير إيران”؟ لقد رأت المؤسسات الأمنية والدبلوماسية الأمريكية أن تصريح الرئيس يمكن اعتباره إعلان حرب، في وقت توعدت فيه القيادة الإيرانية برد قوي على الدول الداعمة للاحتجاجات، واعتبرت أي دعم لها عدواناً على إيران ينبغي الرد عليه بقوة، وأوردت قائمة بالبلدان المتورطة في دعم الاحتجاجات وتأجيجها، ومشاركة عناصر من أجهزة مخابرات أمريكية وإسرائيلية وعربية، وتمويل لجماعات وتسليحها، ودعم قنوات فضائية وجيوش إلكترونية، وإدارة خارجية لتنسيق تلك العمليات، التي رأتها خطراً على الأمن القومي، ولا يمكن السكوت عليها، بما يفتتح الباب لحرب شرسة في المنطقة، يمكن أن تتسع لتصبح حرباً إقليمية ستهدد بالتأكيد تدفقات النفط، سواء بإغلاق مضيق هرمز أو توجيه ضربات للحقول وشركات النفط والغاز والقواعد العسكرية، وأن فتح جبهة جديدة في المنطقة سيشكل خطراً على الولايات المتحدة وحلفائها في توقيت بالغ الحساسية تتفاقم فيه الحرب الأوكرانية ومرشحة للتوسع، بينما يغلي جنوب شرق آسيا ويعج بالمناورات البحرية والجوية والصاروخية التي يمكن أن يتطاير شررها ويلهب تلك الجبهة الخطيرة، واشتعال حقول النفط والغاز التي يعتمد عليها العالم حالياً إلى حد كبير بعد الوقف الجزئي أو الكلي لنفط وغاز روسيا عن معظم أوروبا، ما سيترتب عليه شلل واسع في الصناعات والخدمات والتدفئة المنزلية وارتفاع فلكي في أسعار الطاقة يؤدي إلى انهيار اقتصاد العديد من دول الغرب.
إن اعتبار إيران الاحتجاجات المدعومة من الخارج بمثابة إعلان حرب من الدول المخططة والداعمة تكون قواعد الاشتباك قد تغيرت، بعد أن تكشفت أدوات تحريك تلك الاحتجاجات التي أطاحت بحكومات غير موالية للغرب، ويعد (جين شارب) أستاذ العلوم السياسية الأمريكي أحد منظري تلك الحركات، وله كتب عدة يجري تدريسها لنشطاء المعارضة، وتستخدم فيها تقنيات لنشر الشائعات وتحركات المحتجين، وتعتمد على (تجمع الغاضبين)، وتطرح شعارات عامة، ويجري فيها التواصل مع مجموعات محلية، كل منها مكلف بتحريك مجموعة عرقية أو دينية أو قطاع جماهيري مثل النساء أو الطلاب وغيرها، وكل منها له شعارات وأحلام تتفق مع ميول كل جماعة، وجرى إدخال علوم مختصة بالاتصال والتأثير النفسي، وخوارزميات تحدد الأخبار والشائعات المناسبة لتحريك كل مجموعة، معتمدة على التطور في المعلوماتية والذكاء الاصطناعي.
وهذا النوع من الثورات يتجمع حول أحد الألوان، والشعارات الفضفاضة الملائمة لغاضبين متنوعين، وبلا قيادة ظاهرة. ومهمة تلك الاحتجاجات إنهاك وتقويض مؤسسات الدولة الأمنية، وفتح الطريق أمام مجموعات جاهزة لاقتناص السلطة. وكانت إيران قد تعرضت لعدة موجات من الثورات الملونة، أشهرها الثورة الخضراء عام 2009 في أعقاب الانتخابات التي جرت بين أحمدي نجاد ممثل المحافظين ومير حسين موسوي ممثل الإصلاحيين. وعادة ما تكون الانتخابات بما يكتنفها من منافسات مناسبة لإحداث اضطرابات، أو انتظار حادث مؤلم يحرك مشاعر الجماهير أو أزمة اقتصادية. ولا شك أن إيران مستهدفة لأسباب عديدة ومعروفة، آخرها اتهامها بالشروع في تصنيع قنابل نووية والتدخل في الحرب الأوكرانية وتمسكها بشروطها كاملة في الاتفاق النووي المتعثر، وإن كانت الولايات المتحدة لا تريد إشعال حرب في المنطقة، بل سعت لتهدئة الأوضاع في لبنان واليمن وسوريا والعراق للتفرغ لمعاركها مع روسيا والصين، إلا أن الوضع في إيران لا يمكن السكوت عليه بعد تعثر الاتفاق النووي ودخول إيران مرحلة الغموض النووي بما يهدد المصالح الغربية، ويفرض موازين قوى جديدة. لهذا كان تحريك الاحتجاجات في الداخل هو الأنسب مع إيران التي لا يمكن خوض حرب مباشرة معها، لأن ثمنها سيكون باهظاً جداً على الولايات المتحدة وحلفائها. لهذا كان تجهيز عشرات الفضائيات وجيوش الحروب الإلكترونية، واختراق الأقليات العرقية والدينية والطائفية الكثيرة في إيران، والاستفادة من وجود الإصلاحيين في المعارضة، لجذب أنصارهم إلى الاحتجاجات.
وكان الإعلام الإسرائيلي قد تحدث عن (ثورة في إيران) خلال عيد النيروز الماضي، لكن ربما تأجلت أو كان الإعلان عن توقيتها مجرد مناورة، ويبدو أن إيران كانت تثق في قدراتها في صد أية ثورة ملونة أكثر مما ينبغي، وأن تقنيات جديدة أضيفت إلى جانب فتح محاور متنوعة بطول إيران وعرضها ومحيطها، ويأتي الإصرار على الاستمرار في الاحتجاجات حتى تحقق الولايات المتحدة مكسباً على الأقل في الضغط على النظام لتقديم تنازلات في ملفات إقليمية ودولية إذا عجزت عن الهدف الأهم وهو إسقاط النظام. لكن وتيرة الاحتجاجات تتراجع رغم كثافة الدعم وتنويع الهجمات، إذ أن المظاهرات المليونية المنددة بالاحتجاجات كانت أقوى الأسلحة في مواجهة المحتجين، وبدت إيران أكثر ثقة في كسب تلك الجولة من الثورات الملونة، وتقول الولايات المتحدة إن روسيا قدمت المشورة في قمع الاحتجاجات، وتنتقد الدعم الصيني في استكمال شبكات الإنترنت والتواصل الوطنية، التي تعرقل نشر الدعاية للاحتجاجات، بما يضع الثورات الملونة في إطار الحرب الكونية الدائرة بأدوات عسكرية واقتصادية وإعلامية ومخابراتية وتقنية، التي سيترتب على نتائجها عالم جديد.