أسرار في عيادة الطبيب النفسي.. هاربات مـــن وصمــــة “مجنونة”!

395

آية البهادلي /

القلقُ خراب ناعم يأكلنا بصمتٍ مُرّ، ويخنق الشغف. لم أكن أدرك أن سوء صحتي النفسية، واختلال التوازن، سيؤدي بي إلى مشاكل جمّة في حياتي. نحن -في الحقيقة- لسنا ضحايا الأوجاع المضمرة فقط، وإنما ضحايا المرضى الطلقاء في المجتمع.
لطالما تحاشيت شعور الألم النفسي الداخلي لأسباب مثيرة، منها جهل أقرب الناس بأوجاع الروح، والسخرية من مرتادي العيادات النفسية (المجانين)، بل واعتبار ذلك بطراً اجتماعياً أو تمارضاً أو شيئاً هيناً. صدقوني لا شيء هين، فنحن نموت ببطء وأمراضنا الجسدية نتاج طبيعي لإهمال الصحة النفسية وقمعها بالرضوخ للعيب، فالخوف من الوصم بالجنون يصارع الرغبة في الشفاء، وقد يجعلنا نتردد كثيراً في الجلوس أمام الطبيب للبوح بآلامنا.
وساوس أسقطت شعري
هكذا بدأت (هالة الفيلي)، التي تساقط شعرها، وأصابتها أمراض كثيرة، حتى سألها يوماً أحد الأطباء، كيف هي نفسيتك؟ لتسقط نائحة وتنهار من شدة الاختناق وضيق الصدر.. تقول بغصّة:
“نحتاج إلى البوح المرير بما تكابده النفس من أوجاع مضمرة، لأن الصحة النفسية تكاد تكون مهملة في العراق، حتى أن الناس غالباً ما يتهمون من يحاول مراجعة الطبيب النفسي بأنه مخبول أو ساذج، لماذا؟” هنا تتساءل هالة، التي تؤكد أن غالبية الأمراض الجسدية تأتي نتاجاً لإهمال الصحة النفسية وعدم إدراك مدى خطورة إهمالها، فالصحة لا تعني فقط خلو الجسد من المرض، أو عدم القدرة جسديا، أو الضعف، رغم أن هذا ما جرت برمجته بتعاقب الأزمنة مع المواطنين، حتى نسي الإنسان صحته النفسية، وأهمل جانبه الروحي وتواصله مع الكون من خلال روحه وقلبه، فكيف يكون التعامل مع الصحة النفسية دون إيذائها؟ هنا نقطة البداية، مشكلتنا أننا نتعامل مع صحتنا النفسية بصورة نمطية وشائعة وغير صحيحة، إذ يجب ألا ننسى أن الكثير من الأشخاص فقدوا شغفهم بالحياة تدريجياً، وبعضهم سلّم روحه للموت، فقط لأن أرواحهم كانت حزينة.
إذن، فإن علينا فهم أنه كما يجب الاعتناء بالبشرة والشعر والطعام، كذلك علينا الاعتناء بالقلب سليماً وبروح مطمئنة، طبعاً أعلم أن الأمر ليس بسطحية التفكير في موضوع ما، مثل سقوط الشعر نتيجة الحالة السيئة، وغيره من التفاصيل البسيطة، لكن هذه الأمور الأولية التي تبدأ بالشعر والأظافر والبشرة، سوف تتعمق أكثر فأكثر، وتصبح أقرب من أعضائك المهمة، لأن إهمال مشاكلك النفسية وعدم تصديق ما تقوله لك روحك، يجعلانك تمرض كثيراً، لذا فإن علينا تقبل أن أرواحنا ايضا تمرض، علينا استيعاب أننا بشر، تتعرض نفوسنا إلى الكثير من المشكلات والعقبات والخوف، وأن من غير الطبيعي إهمالها بحجة (أننا لسنا مجانين)، لا أعرف كيف تكون مقارنة المرض النفسي بالجنون؟
تراكم حسي خطير
الاختصاصية (وسن البدري) ترى من جانبها أن “كثيراً من النساء يتعرضن إلى ضغوطات مضاعفة، قياساً بما يتعرض له الرجال، إضافة إلى الكثير من الاستهانة بضغوطهن النفسية، وعدم تقدير تعبهن النفسي. أخبرتني احدى المراجعات أن زوجها غالباً ما يعنفها كلما قالت له (نفسيتي تعبانة)، ويتفوه بعبارات سامّة مثل (ما الذي تريدينه من الحياة، لديك بيت وعائلة وطعام جيد)، وكأن هذه التفاصيل مانعة لضرر الإنسان النفسي، بل بالعكس، كما تبين البدري، فإن السخرية بإرهاق الروح والمشكلات النفسية، تولد تراكماً حسياً قد تنتج عنه أمراض جسدية. وقبل ذلك كله، هناك تأنيب النفس المستمر، وهذا غير مقبول في الاستهانة والسخرية بالروح المتعبة أو المشاكل النفسية، فما هو إلا أمر يجب الابتعاد عنه بشكل حاسم، إذ أن على المرء استيعاب مشكلاته النفسية، واحتواءها، وتقبلها، والبدء بعلاجها من خلال عدم إهمالها او محاولة طمسها.”
النفسيّة علة الجسد
أما دكتورة الطب النفسي (آمال عبد العلي)، فتبين أن “النفس والجسد ليسا منفصلين، بل هما وجهان لعملة واحدة، إذا تأثر أحدهما بطريقة ما، فسوف يتأثر الآخر بالتأكيد، وهذا ما أكدّته نتائج الأبحاث والدراسات العلمية التي أشارت إلى أنّ عدداً هائلاً من الأمراض الجسدية يكون منشؤها نفسياً، فحالة غياب الصحة النفسية هي بيئة خصبة لانتشار الأمراض داخل جسم الإنسان، وتعتبر الضغوط الحياتية التي يتعامل معها الفرد بشكل متواصل من أهم الأسباب التي تؤثر على صحته النفسية، رغم أنّ الكثيرين لديهم القدرة على استيعاب الأحداث الحياتية المختلفة التي تسبب لهم التوتر والضغط والقلق.
إن مفهوم الصحة النفسية ما زال يرتبط، لدى البعض، بعيب اجتماعي، فمراجعة المعالج النفسي أو الاختصاصي النفسي تشكل نظرة سلبية لدى البعض داخل مجتمعاتنا العربية، حيث ينظر إلى الأشخاص الذين يراجعون الاختصاصيين النفسيين كأشخاص غير أسوياء، والكلمة الدارجة التي يطلقها الناس عليهم لقب مجانين، للأسف.”