عبد الحميد الكاتب: نزّهوا صناعتكم عن الدناءة وتوقفوا عن النميمة!
مهدي القزاز/
ما حفظه من تراث الأقدمين رسالة للجاحظ في ذم أخلاق الكتاب وتعداد مثالبهم ومساوئهم، وما قاموا به من تشويه للحياة العربية بتلونهم ونفاقهم وكذبهم ودسهم وفجورهم وكره بعضهم للبعض ومحاربتهم للبارزين فيهم من أهل الخلق الكريم والثقافة العالية.. ورسالته هذه لا تتعدى ما نشكو منه اليوم من بعض كتابنا، وكأن الجاحظ بعث من جديد ليصورهم ويصف سلوكهم وأخلاقهم وعلاقات بعضهم مع الآخرين..
كذلك حفظ تاريخ الأدب العربي في جملة ما حفظه من تراث الأقدمين، رسالة لعبد الحميد الكاتب اشبه بوصية يوصي بها كتاب ذلك الزمان الذي عاش فيه يقدم لهم فيها النصح والارشاد والهداية، وهي بخلاف رسالة الجاحظ لانها تعظم من شأن الكتاب وتسبغ عليهم أسمى المراتب وأعلى المنازل.
كان عصر عبد الحميد الكاتب عصر الاقبال والادبار في الدولة الأموية كتب لعبد الملك بن مروان وليزيد ثم لم يزل كاتبا لخلفاء بني أمية حتى انقضت دولتهم.. وتقول اكثر الروايات انه عراقي وكان في حداثته معلما بالكوفة، وقد قتله الخليفة العباسي السفاح لمشايعته للامويين.. وكان عبد الحميد الكاتب امام عصره ووحيد زمانه في الكتابة والبلاغة ألبس الانشاء العربي حلة جديدة من المتانة والرشاقة.. وله وسائل كثيرة منها هذه الرسالة التي نحن بصددها التي وجهها الى كتاب زمانه
قاله فيها:
«حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة وحاطكم ووفقكم وارشدكم.. فان الله جعل الناس اصنافاً وان كانوا في الحقيقة سواء وصرفهم في صنوف الصناعات وضروب المحاولات الى أسباب معاشهم وأبواب ارزاقهم فجعلكم معشر الكتاب في اشرف الجهات.. أهل الأدب والمروءات والعلم والرزانة بكم ينتظم للبلاد محاسنها وتستقيم أمورها وبنصاحكم يصلح الله للخلق سلطانهم وتعمر بلدانهم.. لا يستغني الملك عنكم ولا يوجد كاف الا منكم.. فموقعكم من الملوك موقع اسماعهم التي بها يسمعون وابصارهم التي بها يبصرون والسنتهم التي بها ينطقون وايديهم التي بها يبطشون فامتعكم الله بما خصكم من فضل صناعتكم ولا نزع عنكم ما اضفاه من النعمة عليكم وليس احد من أهل الصناعات كلها احوج الى اجتماع خلال الخير المحمودة وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم، ايها الكتاب اذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم فان الكاتب يحتاج من نفسه ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات أموره، ان يكون حليما في موضع الحلم، فهيما في موضع الفهم مقداما في موضع الاقدام محجاما عالما بما يأتي من النوازل، والعدل والانصاف كتوما للاسرار، وفيا عند الشدائد يضع الأمور في مواضعها والطوارق في اماكنها، وقد نظر في كل فن من فنون العلم فاحكمه، وان لم يحكمه أخذ منه بمقدار ما يكتفي به يعرف بغريزة عقله، وحسن أدبه وفضل تجربته، ما يرد عليه قبل وروده، عاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره، فيعد لكل أمر عدته وعتاده ويهيء لكل وجه هيئته وعادته..
فتنافسوا يا معشر الكتاب في صنوف الآداب وتفقهوا في الدين، وأبداوا بعلم كتاب الله عز وجل، والفرائض ثم العربية فانها ثقاف السنتك ثم اجيدوا الخط فانه حلية كتبكم، وارووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب والعجم واحاديثها وسيرها، فان ذلك معين لكم على ما تسموا اليه هممكم ولا تضيعوا النظر في الحساب فانه قوام كتاب الخراج، وارغبوا بانفسكم عن المطامع سنيها ودنيها، وسفساف الأمور ومحاقرها، فانها مذلة للرقاب مفسدة للكتاب ونزهوا صناعتكم عن الدناءة واربؤوا بانفسكم عن النميمة وما فيه أهل الجهالات وأياكم والكبر والسخف والعظمة، فانها عداوة مجتلبة من غير أجنة، وتحابوا في الله عز وجل في صناعتكم وتواصلوا عليها بالذي هو أليق لأهل الفضل والعدل والنبل من سلفكم وان نبا الزمان برجل منكم، فاعطفوا عليه وواسوه حتى يرجع اليه حاله، وينوب اليه أمره، وان اقعد احدا منكم الكبر عن مكسبه ولقاء اخوانه، فزوروه وعظموه وشاوروه واستظهروا بفضل تجربته وقديم معرفته وليكن الرجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته اليه احوط منه على ولده واخيه، فان عرضت في الشغل محمدة، فلا يصرفها الا الى صاحبه، وان عرضت مذمة، فليحملها هو دونه، وليحذر السقطة والزلة والملل عند تغيير الحال، فان العيب اليكم يا معشر الكتاب، اسرع منه الى القراء وهو لكم افسد منه لها، فقد علمتم ان الرجل منكم، إذا صحبه من يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقه، فواجب عليه ان يعتقد له من وفاته، وشكره واحتماله، وخيره ونصيحته وكتمان سره وتدبير أمره ما هو جزاء لحقه، ويصدق ذلك تبعا له عند الحاجة اليه والاضطرار الى ما لديه فاستشعروا ذلك وفقكم الله من انفسكم في حالة الرخاء والشدة والحرمان والمواساة والاحسان، والسراء والضراء فنعمة الشيمة هذه من وسم بها من أهل هذه الصناعة الشريفة».
في هذه الرسالة المهمة يوصي عبد الحميد الكاتب كتاب ذلك الزمان الاخمد باسباب الثقافة لتتسع آفاق تفكيرهم وتعلو مراكزهم وان يجتنبوا الدس والنميمة والنفاق والكبرياء لانها ان دلت على شيء، فانما تدل على حقارتهم وسوء منيتهم وخسة طبعهم، كما تدل على ضحالة فهمهم وضعة تفكيرهم وفسولة ارائهم..
ان الجاحظ هاجم كتاب زمانه في رسالته عن أخلاق الكتاب ولم يقدم لهم النصح، أما عند الحميد الكاتب فكان في رسالته ناصحاً ومرشدا ومحذرا ومنذرا، كما تفصح رسالته عن ايمانه الكبير واخلاصه العظيم برسالة الكاتب في الحياة، هذه الرسالة التي تهدف الى اشاعة الأدب والفضيلة والخلق الكريم.