الدكتور مصطفى جرادي الفنان التشكيلي واختصاصي جراحة العظام لـ” الشبكة”: إصابات الحروب كارثية.. وشهدتُ مجزرة قانا

395

هند الصفار/

الدكتور مصطفى جرادي هو أحد الاطباء اللبنانيين المختصين بجراحة العظام، الخبير بإصابات الحرب، وهو من مواليد 1957. أحب الرسم منذ نعومة أظفاره، فقام برسم والدته، وأيضاً نقل كتاب الأحياء بكل رسوماته وهو في الرابعة عشرة من عمره.
تحدث عن ذلك قائلاً: “كانت لوالدي أرض يزرعها، ولم يكن لدينا المال الكافي لشراء الكتب الغالية الثمن، وكان لي صديق لا يهتم بالدراسة، لكن حالتهم المادية كانت جيدة، وقد اقتنى كتاب الأحياء، فذهبت إليه وطلبت استعارته، لكنه ألح علي أن آخذه لأنه لا يقرأ، لكني أصررت على أن أستعيره، وقمت بنقله كاملاً مع الرسومات، وقد احتفظت بتلك الرسومات.”
كما تحدث الدكتور جرادي عن علاقته بالرسم، فذكر أنه ذهب يوماً لشراء أدوات رسم من مكتبة الضيعة، وقد سأل البائع عن الألوان، حتى وصل إلى الألوان الزيتية، التي يجب أن تخلط بالزيت، لكنه لم يكن يمتلك مبلغ الألوان مع الزيت، يقول جرادي: “اشتريت الألوان فقط وقمت بخلطها مع زيت الزيتون وبدأت أرسم لوحات زيتية!”
ولأنه من الأوائل، فقد حصل على منحة للدراسة في روسيا، فذهب أملاً في دراسة الفن، وخلال السنة التحضيرية سألتهم المدرسة عن الاختصاص الذي يودون دراسته فأخبرها برغبته في دراسة الفن، لكنها قالت له عبارة غيرت مجرى حياته: “إذا أصبحت فناناً فإنك ستكون من بين آلاف الفنانين، لكن إذا درست الطب فستكون طبيباً وفناناً في آن واحد، وهذا الأمر لا يجيده إلا قليلون في العالم.”
دراسة الطب
لذا فقد درس الطب العام وتخصص في جراحة العظام، وتتلمذ على يد البروفيسور الروسي (يوماشوف)، وقد تناولت أطروحته تطوير جراحة العمود الفقري في تثبيت وتبديل أكثر من (دسك) للفقرات، ولكن بفتح البطن وليس الظهر! وللأسف فإن هذا الإجراء غير معمول به في بلداننا. عاد في عام 1989 إلى لبنان ليمارس الطب في وقت عصيب، حين كان الصهاينة يحتلون الجنوب، ووجود قوات سعد حداد وجيش لبنان الحر، والبلد في حالة حرب، فكانت تجاربه الأولى مع إصابات الحرب، واستمر فيها. يتحدث الدكتور جرادي عن تلك الفترة قائلاً: “بدأنا مع إصابات الحرب، وهي تختلف من جريح إلى آخر حسب حجم التداخلات والمترافقات مع الإصابة، وكانت أعداد المصابين كبيرة، فيما نحن -كأطباء متخصصين- قلة، وتوالت الحروب علينا، وكانت الإصابات تأتي بالمئات يومياً وأحياناً تتجاوز الألف، وكان هذا يحتاج جهداً طبياً كبيراً لإنقاذ أرواح هؤلاء.” ويتحدث عن مجزرة قانا فيقول: “في مجزرة قانا عام 1993 خلال ساعة واحدة استقبلنا 120 إصابة، وفي مدينة صور كنا طبيبين فقط في جراحة العظام ما بين 1989-1994 .”
“ولم يكن الأمر يقتصر على الحرب المباشرة، بل الانفلات الأمني الذي تتخلله انفجارات السيارات الملغومة والاغتيالات المتوالية، إذ انفجرت عام 1989 سيارة ملغومة في صور تحت بناية خلفت إصابات معقدة المعالجة كان لابد من التعامل معها لإنقاذ أرواح المصابين، ناهيك عن مجزرة المنصورة. ومن الحالات العالقة في ذهني وصول بنت بعمر الـ 19 سنة تقريبا، فخذها غير موجودة، لذا اضطررنا لزراعة ورك. وبقيت أعيش شهراً كاملاً مع 400 جثة، ولم استطع الكلام خلال هذه الفترة من جراء التوتر العصبي الذي عشناه.”
إصابات الكتف
“ومن الأمور التي عرفناها أن الذي يصاب بقدمه فهو كان في حالة هروب، أما الذي يصاب بالكتف أو في رأسه، فهذا كان يقاتل.. والصراع مع إسرائيل مستمر.” هكذا يتوالى الحديث على لسان الدكتور مصطفى.
“عاش لبنان سنوات صعبة مع الحرب، ولاسيما الجنوب اللبناني، حيث كانت هناك أربعة مشافٍ في جنوب الليطاني، ثلاثة منها خاصة وواحد حكومي، ومشفى آخر للهلال الأحمر، وهذه المستشفيات يجب أن تكون في جاهزية تامة دوماً لأن الخروقات الأمنية يمكن أن تحدث في أية لحظة، وحين تكون الحرب أكثر شراسة.”
عمل الدكتور مصطفى جرادي مديراً لمستشفى صور الحكومي لسنوات طوال، وتابع عمليات علاج إصابات الحرب الطارئة والباردة، وأصبحت له خبرة في هذا المجال، حتى أنه ألّف كتاباً تحت عنوان (أيقونة الحرب.. مستشفى صور الحكومي خلال حرب تموز- آب 2006)، ولكن ماذا عن الفن بعدما اختلط بالطب؟
يقول جرادي إن “اللمسات الفنية هي سمة أساسية لكل عمل يقوم به المرء في حياته، وفي مهنة تتعلق بحياة الناس، وأنا كطبيب جراح أسهم الفن في صقل أدائي المهني الجراحي، فاللمسات الفنية كانت دائماً حاضرة في عملي، التي من المفترض أن تكون سليمة ومتكاملة تتوافر فيها كل المعايير لكي يكون الشفاء تاماً وجميلاً، وهي نفس المعايير المطلوب توافرها في إنجاز أية لوحة أو عمل فني يقوم به فنان محترف.”
إصابات العمود الفقري
وعن المرضى الوافدين من خارج لبنان، يقول الدكتور جرادي إن “هناك الكثير من المرضى من خارج البلد نقوم بمعالجتهم، غالبيتهم يعانون من إصابات العمود الفقري والمفاصل، ونبقى نتواصل معهم ونتابع حالتهم حتى بعد عودتهم إلى بلدانهم، فالطب أمانة ومهنة إنسانية، وليست مجرد مصدر للعيش، ولهذا فإني لا أستقبل أكثر من عشرة مرضى يومياً في عيادتي وأصاحب مريضي لأنه جاء يشكو لي جسده، الذي هو من أقصى خصوصياته، فأحاوره عن أحواله، ومن ثم استمع إلى شكواه.”
يبقى الطب هو فن مجسّم ومهنة إنسانية.. فكيف إذا امتزج بالرسم والتشكيل؟