الصدريـــة..محلـــة بغداديـــــة تفوح بعبق التراث
ملاذ الأمين
تصوير: حسين طالب/
حين اتخذ الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بغداد مقراً لخلافته عام 762 م 145هـ وشيد مؤسسات الحكم كديوان المال وديوان الجند على الجانب الغربي – الكرخ، كانت الجهة الشرقية من نهر دجلة عبارة عن سوق تجارية ومساكن للتجار والعاملين في التجارة والزراعة.
ومع مرور الوقت أصبحت الرصافة مقراً للحكم والعسكر والتجارة وتوسعت بشكل أكبر من الكرخ، فبنيت فيها المدارس والقصور والجسور وسورت بسور يحيط بها لدرء الاعتداءات من قبل الطامعين، ثم انتقلت دار الخلافة العباسية في سنوات لاحقة الى الرصافة، وأسست فيها المراكز الخاصة بالدولة من دواوين الحكم والمدارس والأسواق والخانات ومعامل صنع الأقمشة والألبسة والسروج وما يحتاجه الإنسان في ذلك الزمن.
ومن أشهر الأسواق الخاصة بالخضراوات والفواكه واللحوم، يبرز سوق الصدرية الذي يقع باتجاه الجنوب الشرقي لبغداد على مقربة من مرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني.
جامع وسوق
يقول مدرس التاريخ (عبد الباسط محمود)، وهو أحد سكان الصدرية، إن محلة “الصدرية عرفت بهذا الاسم نسبة الى دفينها الشيخ صدر الدين محمد الهروي، المدرس في المدرسة البشيرية المتوفى سنة 677 للهجرة بدلالة رخامة وجدت عند قبره، بحسب المؤرخين.”
مبينا أن “من أبرز معالم محلة الصدرية جامع سراج الدين، وكانت فيه مدرسة تدرس فيها العلوم العقلية والنقلية، ولهذا الجامع رواق رائع البناء، وأمام ذلك الرواق ساحة صغيرة تضم ضريح الشيخ سراج الدين. وبحسب المصادر فإن أول عمارة معروفة له جرت سنة 1131 للهجرة بأمر والي بغداد الوزير حسن باشا؛ حين أنشئت سقاية يصل إليها الماء عن طريق قناة عالية مبنية على العقود يرفع إليها الماء من كرد (دولاب) يصب عند شاطئ دجلة في شريعة السيد سلطان علي، وما يزال الجامع عامراً وأعيد بناؤه على هيئة جديدةٍ في سبعينيات القرن الماضي والسنوات اللاحقة.”
شخصيات مميزة
ولوجود المدارس ودور العبادة نبغت من هذه المحلة شخصيات متميزة كان لها دور بارز في تاريخ العراق السياسي والأدبي، وبحسب المصادر والمعاصرين، فإن من اشهر الشخصيات البارزة خلال القرن الماضي، التي ولدت في الصدرية ودرست في مدارسها، هم: (محمود فهمي المدرس) السياسي والمؤلف والشاعر، المولود سنة 1905 وتلقى علومه في الكتاتيب العثمانية، وأتم دراسته في دار المعلمين العالية سنة 1926، كما درس الصيدلة وأجازت له الحكومة إنشاء أول مختبر كيمياوي وهو (مختبر ابن سينا)، وكان خطيباً مرتجلاً بليغ العبارة، بارع في الأدب واللغة والتاريخ، بحسب معاصريه، وتولى إدارة المدرسة الحسينية عام 1929 في محلة الدهانة.
والدكتور (خالد الجادر)، الذي ولد فيها عام 1924 وتخرج في معهد الفنون الجميلة عام 1946 ونال شهادة الليسانس من كلية الحقوق عام 1947 وحصل على الدكتوراه في الآداب من جامعة (ليل) بفرنسا وشغل منصب عميد معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1960.
كما يشتهر من أبناء الصدرية (الحاج مؤمن)، بكونه (مجبرجي)، توارث المهنة عن أبيه وتوراثها أولاده عنه، ومن القراء في الصدرية اشتهر الملا حسن، والملاية بهية، في دربونة العطار بالصدرية ايضاً، والملاية زهره في محلة سراج الدين.
علاوي الحبوب
التجوال في محلة الصدرية وسراج الدين يبدأ من رحبةٍ واسعةٍ في نهاية السوق، وهذه الرحبة كانت تسمى علاوي الحبوب؛ وبحسب المصادر فإن بغداد كانت لا تعرف السوق السوداء وهي بعيدة عن الغلاء والتلاعب بالأسعار؛ وكانت الأمطار وحدها كافية لإنتاج محاصيل الحبوب التي من أنواعها: الحنطة الداوودية وحنطة القنطرة والحنطة التي تسمى عراكية، ومن أشهر اصحاب محال بيع الحبوب في هذه الرحبة (أحمد جمعة)، وهو والد الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي، وقد كان محله في هذا المكان الذي يشغله الآن مطعم للباجة، في مكان قريب من سوق الصدرية، وما عاد له من أثر في الوقت الحاضر، وكان ثمة خان يسمى خان اللاوند، يباع فيه الملح.
وفي الزمن الماضي كان في الصدرية مقهى يعرف بـ”كهوة النبكة”، وهو خاص بهواة “مهارشة” “مكاسرة” الديكة، وقد توارثها البغداديون جيلاً بعد جيل، وكانت معروفة في بغداد منذ القرن الخامس للهجرة، وفيها يتباهى “الكسارون” بنوعين من الديكة هما، الهراتي و العراكي .
دربونة المعدان
وعند الباب الخلفي لجامع سراج الدين في داخل سوق الصدرية، انتشرت أشهر مطاعم الكباب، لقرب هذه المطاعم من القصابين، وكانت بائعات الخبز يفترشن وسط السوق كل صباح، كذلك بائعات القيمر والروبة القادمات من زقاق في المحلة يسمى دربونة المعدان. وفي دربونة (الكبي) و(الآتون)، أي الموقد، كانت هناك بعض الدكاكين التي تختص بجلي وتبييض وتفضيض الأواني والقدور والطشوت والأباريق و(اللكن) البغدادي.
وعلى امتداد السوق الملاصق لجامع سراج الدين كانت وما تزال محال بيع الأقمشة بأنواعها، والمكان يسمى سوق البزّازين (جمع بزّاز)، وثمة دكاكين أخرى لصاغة الذهب والفضة.
طرشي ومخللات
للصدرية حصتها في صناعة أجود انواع الطرشي والمخللات، وخصصت لها دربونة، وكانت تقابلها عدة حوانيت لعطارين؛ ويحكى أن لمطرب المقامات الشهير محمد العاشق واحد من هذه الدكاكين، فقد كان العاشق من شخصيات هذه المحلة العريقة.
جامع المصلوب
ويقع في مفترق الدروب بين محلات الهيتاويين وصبابيغ الآل والدهانة جامع المصلوب، وهو من الجوامع المشهورة في بغداد بني قبل أكثر من أربعة قرون، ويروى أنه في سنة 1886م صلب أحد المعارضين للحكم العثماني وجرى تعليق جثته في باحة الجامع فعرف بجامع المصلوب، وقيل إنه أحد الصالحين ويرتبط بآل بيت الرسول (ص) نسباً ويوجد قبره في باحة الجامع.
مقاهٍ وملاعب
وكانت المقاهي المنتشرة في أطراف الصدرية مقار لرياضيي الفرق الشعبية، مثل مقهى غازي أبو طويرة، الذي كان مقراَ لأشهر الفرق الشعبية بكرة القدم، كفرق العاصفة وشباب الطليعة وأنوار الطليعة، وكانت هذه الفرق تضم لاعبين من المنتخب العراقي في ستينيات القرن الماضي، أما مبارياتها فكانت تقام على ملعب العوينة الشعبي بحضور جماهيري مكثف.
محال تجارية
وخارج بوابة سوق الصدرية، حيث الشارع الموصل بين شارعي الجمهورية والكفاح، تنتشر أعداد مكثفة من المحال المتنوعة، منها مطاعم وأكشاك لبيع الفواكه والخضراوات وبسطيات لبيع الألبان والأجبان والبيض، إذ تتعامل هذه المحال مع القرى القريبة من بغداد، ولاسيما قرى خان بني سعد والراشدية لرفدها بمنتجات الألبان والدواجن، وكذلك توجد محال أخرى للمرطبات والمعلبات وأفران الصمون والكعك والحلويات وصالونات الحلاقة، ولم تزل تلك المحال تتميز بطابعها المحلي حتى الآن، برغم تغير معالم أكثر أحياء بغداد.